الخميس، 25 فبراير 2016

أصائلُ باريـس


من بعيد، بدا كأنّ الأمرَ متعلّق بتجمهرٍ أو مشروع مسيرة، ثمّ، وأنـا أدنو من المكان خطوة فخطوة، راحت الرؤوس تتضّح لفتاتُها وقد خلت من كلّ جِـدّ والأحاديثُ تبينُ بجنوح نبراتها إلى الدعابة والمزاح، والحشد، اكتشفتُ، كان، في حقيقته، شِللٌ عديدة جمعت ما بينها الصدفة، أمّا الدخّان الذي تراقص صاعدًا من سجائر وأفواه بعضهم فقد طارَ معه آخرُ ذيل من ذيول فكرة المسيرة والتجمهر، أخذَ حشد المنتظرين لدورهم، أمام باب إحدى الحانات، شكلَ أفعوان انتفخ بطنه وغفا على مبعدة من مدخل جحره وقد خدّرته وجبة دسِمة فرغ منها لتوّه، بين رأسِ الأفعوان ومدخل الجحر تُركَ فراغ لمرور السابلة، وفراغٌ آخر أكبر فصَل ذيلَه عن متشرّد اتّخذ من عتبة أحد البيوت مقعدًا له، بين يديه، على الأرض، لمعت، في خطوط فضيّة وخضراء، أربع كانيطات بيرة مرصوفة الواحدة تكاتف الأخرى بلا اعوجاج أو فسحة، رأيتُ يمناه تمتدّ إلى الكانيطة الأولى على يمينه، رفَعَتها عاليًا فوق رأسِه وقد أماله للخلف، رسمَ السائلُ خطًّا أصفرَ ذا زبد وصل فوهة الكانيطة بجوف الفم المفتوح، لم يدم ذلك طويلا فقد شرق وفاضت من فمه رغوة بيضاء سالت على صدره ولحيته الشوكيّة المهمَلة، سعَل سعالاً دمعت عليه عيناه واحمرّتا، تقيّأ على ملابسه ما شرِبه لتوّه من بيرة، وخيّل إليّ أنّني لمحتُ، إضافةً إلى الدفقة التي ارتدّت من فمه، قوسيْن أرقّ نزّا من فتحتيْ أنفِه، ثمّ وهو يمسح كامل وجهه بكمّه كانت يده الأخرى تعود بالكانيطة إلى مكانها وقد تقعّرت واعوجّت وصارت قياسًا إلى شقيقاتها الثلاث مسخًا، كنتُ أتأمّله من وقفتي على الرصيف، تفصلُ بيننا طريقٌ يمضي فيها بعض الملتحقين بالأفعوان البشريّ وبعض المغادرين منه، في نظرتِه إلى ما حوله دهشة من يكتشِف العالم للمرّة الأولى، نظراتٌ تكاد تكون بلهاء، أغلبُ الظنّ أنّه يعاني من مرضٍ تنفّسي جعله يغرف الهواء من فمه دون أنفه، وكان من شأنِ المشقّة التي كابدها في ملء رئتيه أن ترغِمَه على هزّ رأسِه، أمامًا في كلّ زفرة وخلفًا مع كلّ شهقة، أضفى عليه فمُه الأفقم كقدامى الفايكينغ الإسكندنافيين وطريقة تنفّسِه وشفتاه المرسومتان كهلالٍ مكفوء شبهًا بوجه سمكةِ باجو ملكيّة سابحة خلف زجاج أكواريوم...
من غرفتي، قبل ذلك، وقد انتصف الليل، تناوبت على أذنيّ أصواتٌ قادمة من الشارع شبه المقفر الصامت، صوتُ سكّيرٍ يسبّ صديقه فيما الصديقُ يقهقه، خطوات امرأة بدت، من إيقاع عقبيْ حذائها على الرصيف، أنّها على عجلة أو خائفة أو، ربّما، قادها إلى ذلك، دون أن تدري، قلبٌ هفا وجسدٌ ظمأ واشتاق، سمعتُ، أيضًا، أصواتَ سيارات تباعد وقت مرور إحداها عن الأخرى، بدا هديرُ الواحدة منها، وهي تقترِب ثمّ وهي تبتعد، أشبَه بما نسمعه لحظةَ نُخرطِم شفاهَنا بِنيّة التصفير، وقد نسينا ترطيبها، فيخرجُ الهواءُ دون أن ندرِك ما انتويناه، أمّا في المسافة بين السيّارة وهي تقترب وبينها وهي تبتعِد، في تلك القطعة التي أعجزُ من أن أحدّدها قياسًا، يُداخِلُ ذلك الصفير الصامت صوتُ غوصِ العجلات في ماء المطر، تمامًا مثلما تخرُحُ مع صفيرنا الصامت، إذا امتدّ وطال، أسلاكٌ وندفٌ من البصاق، "نعم نعم" قلتُ في نفسي "حتّى الأصوات يمكنها أن تتبلّل"، يطالُ الأصواتَ البلل وتجرح الأصواتُ القليلة الصمتَ وإلاّ ما أمكننا أن نعرِف الصمتَ ولا أن ندرِكَ عمقَه، وبسبب ذلك، كما أعتقِد، تصنعُ آذانُنا ذلك الصرير الخياليّ في الأماكن مطبقة الصمت...
أغراني الصفير الصامت، الصوت المبلّل، شتائم السكّير وطقطقة المرأة المتلهّفة، بأن أرتديّ معطفى وأقتحم الشارع لا ألوي على شيء، بلغ الجوّ، خارجًا، من الدفء بأنّ بدت معه كلّ تلك التحصينات التي غلّفتُ بها جسدي ورقبتي مجّانيّة، بل وقد تسمو لأن تكون، في نظرِ أحد ممّن التقيتهم، ضربًا من الفوبيا، في الشارِع وعلى ضوء المصابيح تهادت قُطيرات مطرٍ رذاذيّ، ورسمَت حول كلّ مصباح هالةً ضبابيّة واسعة حفّتها هالةٌ أصغر بألوان قوس قزح، مررتُ في سيري الذي امتدّ لأكثر من ساعتيْن على شوارِع منها ما كان مضاءً ومنها الخلفيّة بعتمتها، تلوّنت نوافذ المنازل الساهرة بألوان الستائر أحمرها وورديّها وأزرقها، قطعتُ ساحات وميادين ظهر على تماثيلها الوحدة والحزن، لمعت على أوراق الشجر قطراتٌ ذات أشعة كأنها شموس أو قطعٌ من النجوم سقطت من السماء، التقيتُ بالسكارى وهم يعودون إلى منازلهم أو في طريقهم لأن يغيّروا الحانة وقد ملّوا المكان حيثُ كانوا يشربون، وفي مرّتين تفصل بينهما لحظات قلائل، في زُقاق مظلم، وقعت قدمي على كتلتيْن طريّتين أدركتُ أنهما براز كلاب، من حظّي أنّ براز الكلاب هنا، لطبيعة ما يأكلونه، لا رائحة كريهة له، مضيتُ بعينين تفتّشان عن بركة ماء، ولمّا تعذّر عليّ ذلك لذتُ بعودٍ عثرتُ عليه في وقفتي قبالة المتشرّد شبيه سمكة الباجو، وملتُ أسلتُ به ما بقي عالقًا بجوانب الحذاء من براز، وعندما انتهيت من تنظيف الحذاء كانت سمكة الباجو قد قضت على اثنين من كانيتات البيرة وأعادتهما إلى مكانيهما الأوّل وقد تقلّصتا وتشوّه قوامهما...
لدى عودتي، مررتُ مرّة أخرى بالأفعوان، أو ماكان له شكل أفعوان، فقد صار إلى أشلاء وتعدّدت الفُسح بين أجزاء جثّتِه، أمكنَ شللاً الدخول إلى الحانة المكتظّة وقد غادرها بعض من كان فيها، وربّما أضنى الإنتظار شِللًا فراحت تبحثُ لها عن حانة ثانية، سرتُ نحو ربع ساعة، ثمّ انعطفتُ إلى شارع، لم أعبره أثناء مجيئي، رغم توفّره على أعمدة إنارة، إلاّ أنّ أشجار الجمّيز جعلته ذا ظلمةٍ مرقّطة بما سمحت به الأوراق والأغصان من ضوء، كان، في الواقع، شارعًا فرعيًا قصيرًا يربط بين شارعين رئيسيين، من أحد جذوع الجمّيز الضخمة، وأنا أحاذيها، انطلق صوتٌ "اسسسسسسسسست" وفي نفس اللحظة تقريبًا، وانا أستدير مشدودًا إلى مصدر الصوت، التقط أنفي رائحة عطر نسويّ، كانت واقفة تلتصقُ بجذع الشجرة حتّى أنّك تحسبها امتدادًا له، ومثل أرضِ الشارع بدت، على لطخات الضوء المتسلّل من بين أغصان الشجر، بشرةٌ سوداء، لمعان، جزءٌ من تنّورة جلدية سأغمطها حقّها إن أنا وصفتها بالقِصر، تكلّم الشبح فيما أنا أواصلُ، صامتًا، تأمّله "أترغبُ في ممارسةِ بعض الحبّ ؟..." كان الصوتُ لا يختلِف في تهذّبِه ودبلوماسيتِه وأنثويتِه عن ما سبق وصادفته لدى موظّفات الإدارات وبائعات المتاجر، بدأت، مع الوقت واعتياد عيناي العتمة، ملامح هذه المومس تتضّح، زنجيّة طويلة القامة هيفاء، بعينين باسمتين ذات رموش صناعية، بصدرٍ ثلاثة أرباعه نهدان، ساقين لامعتان ربِلتان، وعلى ضوء شاشة هاتفي، وقد وجّهته إلى وجهِها، مثل زبون يكفل له القانون حقّ الحرص على الجودة، ظهر على خدّها ندبٌ، ضربة سكّين، تبدو الحادثة، من خلال النقاط حيثُ آثار الخياطة، ليست بعيدة العهد، أدهشني انصياعها، عدم تنازلها عن ابتسامتها، لم يبدُ عليها الإستياء لحظة وجّهتُ إليها ضوء هاتفي، وبعد أنِ اعتذرت لها بديبلوماسيّة كديبلوماسيتِها "لم تمضِ ساعة منذ كنتُ مع إحداهنّ، لو كنتُ أعلم بوجودك هنا ما قبلتُ بها، نلتقي" اتّسعت ابتسامتها وتمنّت لي، بصوت خرجت معه أنفاس زكيّة، بقيّة ليلة سعيدة، لم أكُن أدري أنّ ما سأمر به من أشجار تختفي خلف أغلبها أخريات، كلهنّ زنجيّات، صغيرات السنّ، تفوح منهنّ عطور جذّابة، يعرضن سلعتهنّ بأدب وبلسانٍ لا يختلِف عن لسان عليّة القوم، وكلهنّ تمنينّ لي وقتا ممتعا، وليلة هنيئة...
وأنا في منتصف طريق العودة انتبهتُ إلى أنّ السمّاء أمسكت رذاذاها، اختفت الهالات القزحيّة من حول المصابيح، ظلّ صمتُ الشوارِع على حالِه، جفّ الطريق فاختفت تلك القطعة الصوتية المبلّلة، وانتهى صوت السيارات إلى صفيرٍ صامت متّصل، تجاوزتُ متشرّدًا سكرانًا كان يتحدّث، بنبرةٍ متوعّدة، إلى كلبِه الذي أطرقَ ببصرِه وسكن، كأنّه قدّر ما اقترفه من خطأ واعترف، بالقربِ من أحدِ العمارات فعمت الجوّ رائحةُ شراب الزنجبيل، نظرتُ إلى أعلى، شقّة واحدة فقط مضاءة، لا أدري لمَ رسم لي خيالي صورةً لصاحب هذه الشقّة، عجوزٌ اجتاز الثمانين، جنديّ قديم في ثكنةٍ بنواحي بشّار، كان حلاّق الثكنة، تأتأة لسانه لم تشفع له في الإعفاء من الخدمة العسكريّة، عاد من الجزائر قبل الإستقلال بعامين، تزوّج بصديقته التي انتظرته، لدى عودتِه، في ميناء طولون، ومنذ عودتِه، أمكَن الزمن أن يُصرِفه عن كلّ ما صحِبه من الجزائر إلاّ عن شراب الزنجبيل...
تمدّدتُ على السرير بعد أن تخفّفتُ من معطفي، شعرتُ براحة لذيذة بدت لي أنّها ستفارِقني لو غيّرت ملابسي، نمتُ كذلك بحذائي وبسروال الجينر والقميص الصوفيّ، وآخر ما مرّ على خاطري قبل النوم أمنيـة...كوب زنجبيل...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق