الاثنين، 15 فبراير 2016

أصائـلُ باريـس


طالعتني السماءُ، هذا الصباح، وقد ضعُفَت سحابتها، أخيرًا، وطالَ كثيرُ فسطاطِها الرماديِّ الوهَنُ، وقد أجادت السحابةُ، والحقّ يُقال، باتّصال ما مضى من أيّام، لعبةَ الحُضن القاسي الممعن في برودتِه، ومثلَ مصارِعٍ بارع يُرخي قبضتَه على خصمِه، في لحظةٍ بعينِها، لتغدو مسكتُه القادمة أكثر إحكامًا، كانت تتغافلُ عن الشمسِ بين الحين والحين، فيطلّ الكوكبُ، على عظمتِه، خجِلاً كالمجلّل بالعار، كَـ، بتشبيهٍ يبدو لي أبلغًا، كومبارسٍ على خشبـةٍ عرضُها السماء والأرض، لكنّ الكومبارس غدا هذا الصباح محورَ الكون، وبعد أن طالَ أمدُ أسرِه انتفضَ وصارَ في حُكمِ الجلاّد، أمّا أنـا، فقد وجدتُ في نفسي، هذا الصباح، سعادةً لا أستطيعُ الجزمَ بأحدِ منبعيْها، الدفء المنتشِر في الجسد والجوّ أم انتصارُ انتصاري لشمسٍ كانت، إلى الأمس، في عداد الضعفاء...أم أنّ المنبعَ واحد وما بدا لي لا يعدو الرّافديْـن...
من وقفتي في العربة، عربةُ الترام المكتظّة الزاحفة، نظرتُ الرؤوس فإذا بها تهتزّ كبنادلَ، على كرويّتها جميعها، تمايزَت خطوط استداراتها وتباينَت ألوانُ ما غلّفتها من شعورٍ ومن أوشحةٍ وقلانس، راحت الوجوه تتلوّن بحمرةٍ بهيجة، فيما كانت الأفواهُ تتلافى إلاّ ما يُضحِك من حديث، أو أنّ الآذان هي التي كانت تتواطأ إذ ردّت كلَّ حديثٍ، مهما كانَ عاديًّا، إلى مدعاة للإبتسام، ثُمّ إنّ تلك الوجوه، شأنُها في المآدِبِ والأعياد، وكأنّي بها انفصَلت عن ما كانت تكابِدُه الأجساد، في الأسفل، من زنق وتململ، فأحدًا ممّن صادفتُهم، من الوقوف مثلي، لم أرى ملامحه وقد تشوّهت وتشكّلت سيما الضّجَر...
توالت المحطّات، وفي كلّ منها نزل من نزل وصعد من صعد، وفي كلّ محطّةُ كنتُ، قبل أن يصعد الصاعدون، أغيّر مكان وقوفي إلى حيثُ يظهرَ لي أنّه المكانُ الأريَح، ولم أكُن أعلم، حتى ذلك الحين، أنّ ثلاثة من المقاعد كانت، على مقربةٍ منّي، شاغرة، هي أربعةُ مقاعد، أو بتعبير أدقّ مقعدان يتقابلان ومقعديْن، احتلّ إحداها متشرّدٌ لم يبالِ، ربّما لاعتياده الأمر، بامتناع الواقفين من التجّرؤ على مكاتفته أو الجلوس قبالَتَه، لم أتردّد ولو للحظة، وأنا ألمحُه تحوطُهُ الأماكن الثلاثة، أن أعزمَ على احتلال واحدٍ منها، وكان عليّ، قبل أن يصير عزمي نافذًا، أن أربت، في لطفٍ، على أكثر من كتِف، أبتسِم، على سبيل الشكر المسبق، لوجهين أو ثلاثة، أتمسّح بظهري، بتمهّل قصدتُه، على صدريْن سرت إليّ منهما حرارةُ ما نفرت فيهما من نهود، كان على أنفي أن يتشمّم، بلهفةِ نعمةٍ لا تدوم، ضروبًا ساحرةً من العطور، وضروبًا أخرى سطَعتني على كرهٍ منّي مخلّفةً، فيَ، شعورًا كالغيظ...
كنتُ على تأهّب لأن ترمقني الأعيُن بنظراتٍ أدناها متعجّبة لحظةَ جلستُ قبالة المتشرّد، لكن لا شيء من ذلك حدث، وكأن قدرَ من يقتعد المكان أن لا تُدرِكَـه الأبصار، مثلما لم يُلتفَت، قبلي، إلى المتشرّد الذي صار جارًا لي وزميلاً لي في اللعنة، من مكاني رحتُ أنظُرُ إليه، فوجدتُهُ شيخًـا في السبعينات من العمر، ملابسه السوداء لم يسعها إخفاء كمّ القذارة ممّا حملت، اعتمرَ قبّعةً سوداء من صوف لُفَّـت حوّافُها، كقصبة مجوّفة، إلى منابت الشعر، ما كان يفوحُ منه، وإن كانَ عطِنًا ذا حموضة، غيرَ انّه بلغني برائحةِ عصارة ثمرِ المشمش ولم يينع بعد، أمالَ جسدهُ إلى الخلف وأنامَ رأسَه على صدرِه وراح يشخر، شاربُه الرماديّ الذي أخفى، لكثاثتِه، فمه المزموم، كانت شعراتُه منتصِبة يتناغمُ فيها الأسودُ مع الأبيض، وعليها، على تلك الشعرات، عزفت أنفاسِ الشيخ، بين الشخرة والشخرة، لحنًـا ذا صفير، من جيبِ قميصه، تحت معطفٍ غير مزرّر، أطلّت علبة سجائر مارلبورو حمراء كعلبة سجائري، لم يسعني أن أرى عينيه وقد انسدلت عليها الجفون بغيرِ قليل من الإصرار المداني للعنف، كأنّ بجفونِه تلك تصرُخُ بالألم وبالرغبة في الانتفاء، وكأنّها الموطِن حيثُ يغيبُ جزء جبل الثلج، وكأنّي بالشيخِ لم يرضَ بهذه المرحلةِ السطحية من النوم فراحت عيناهُ تنوبان عنه في سؤال أرضِ أخرى للرقاد...أرضٌ بعيدة...بعيدة وقريبة...
بعد أن يكون الشيخ قد استيقظ، أكونُ أنا في مكانٍ آخر، غادرتُ عربة الترام وتركتُه في نومه وفي قدرتِـه ولعنتِه ألاّ يراه النّاس وإن اجتنبوه...لم يرني وربّما لن يراني مرّة أخرى...هُنـا، الآن، في هذه اللحظة، من حياتي ومن حياتِه، أكتُب فيما لا أعرف ما يجري له، أفكّر فيه ولا يفعل، هنـا أتوقّف، برضا وعجزٍ معًـا عن أن أضيف شيئًـا...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق