السبت، 28 مايو 2016

عمّي الحـاج



قصيرٌ يميلُ إلى بدانـة، أبيض البشـرة قصير الشَّعر أسودُه، حاجبان كثّان يتراقصان بشكّ دون توقّف، أنفٌ مفلطحـة اخذت من البطيخ الأصفر شكلَـه، جهوريّة صوته محبّبـة لا منكَرة، إبتسامتُـه الدائمـة المتّصلة صارت إلى جزءٍ من ملامِحِـه على نحـو لا أمل لأحد من معارِفِـه أن يتصوّره بدونِهـا، كرشـه الكبيرة تجعل أزرار قمصانِـه تهدّد، في كلّ لحظـة، بالإنعتاق والطيران، عندما كان يصعد سيارته الـR4، لم يفتـهُ يومًـا أن يتأمّل وجهه في المرآةِ العاكسـة، مهووس بالنظافـة لدرجـة أن أحذيته الجلديـة كانت تلمع مثل مرآة، منذ عرفته، قبل خمس عشرة سنـة، لم تجمعنا جلسـةٌ إلاّ وربت على ساعة يده يوقِظهـا من سنـة نـوم أو هكذا كان يخيّل لي، سألتُـه مرّة عن عدم تغيير هذه الساعة التي تكرّر نومها فردّ ضاحكًـا "ماراهي لا خاسرة لا والو، عادة وخلاص"، نعم عادة الضرب على الساعة ومناداة كلّ محدّثيـه بـ"Mon fils" ، له مع النّساء أيّام عرفناها من مصادر أُخر، كان حيّيًـا لا يأتي على ولوج هذه المواضيع معنا وكنّا، من فرط احترامِه، لا نجرُؤ على جرجرتِـه إليها، عمّـي الحاج الذي تقاعد منذ خمس سنين لـم ألتقِـه فيها سوى مرّة واحدة، يوم دخلتُ المستشفى مريضًا وعادَنـي، وإن تذكّرت عديد خصالِـه ومزاياه، فكلّهـا كوم وخصلـةٌ أخرى كـوم آخـر، مرّةً لم أسمعـه يردّ عليّ، وعلى غيري، لحظـة أقولُ خطـأً بـ "أنت مخطِـئ"، أبـدًا لم يفعل وإن كان على يقيـنٍ بخطأي، ردّه الدائم "أنت متأكّـد ؟..."، كان يتلفّظهـا بالفرنسيـة، مبتسِمًـا تلك الإبتسامـة التي تزيدُ من ثقتِك في نفسِـك فتراجِـع نفسَـك وتعترِف بخطـأ رأيِك أو قولِك دون أن يتلبّـس هـو هيئـة القاضي المُحاكِـم، دون أن يُشعِرك أنّـه الأدرى منـك...منّي إليك السلام حيثمـا كنت عمّـي الحـاج...

الخميس، 19 مايو 2016

جولـةٌ مسائيّـة


الأنوارُ عديدةُ الألوان والأحجام، وكثيـرةٌ، كالنّجوم، يستحيلُ عدّهـا، حمراءٌ ترتدّ على وجـهٍ أبيض فتردّ لونَـه إلى سُمرة، وصفراءُ تقلِبُ من كان أسمرًا من الوجوه إلى الأبيض، خضراءٌ سالت بلونها على فستانٍ أبيض، ورأيتُ، بعد هذه وتلك، أنوارٌ مغبّشـة فعلت أن شوّهت وجوهًـا كانت ستكون جميلةً في غير هذا المكان. كنتُ أنقُلُ خطواتي في الشارع المكتظّ، أتنسّمُ عبيرًا ضمّخته روائحُ عطرٍ أخّـاذ مرّة، ومرّة تنفذُ إلى منخريّ، برغمٍ عن أنفي، روائحُ عطنة لتعرّق الأجساد وطولِ ارتداء الأحذية والجوارب، رأيتُ جمَـالاً ما عتم أن قطعه القبح وصادفتُ هسيسًا ما انفكّ أن أخرسَـهُ الصراخ، بيعٌ وشراءٌ ومماحكة، صوتُ قطع نقدية تُفلتُ على سطح طاولةٍ صلب وخشخشةُ أوراقٍ تعدّها، خِلسةً، يدٌ خشنـة يملأهـا الشَّعـر.
في الشارِع، شارع الـ20 متر بالبليدة، لا تكادُ ترى سوى الأثرياء وسيّاراتهم الألمانيـة، احتكروه، أظنّنـي على شيء من الضيم بهذه الـ"احتكروه"، فلقد لفظ الشارعُ الفقراء بأن عرَض باعته ما يطلبُه الأثرياء دون سواهم، ولمّا كنتُني أقربُ إلى الفقراء منهم إلى الفريق الثاني وجدتُنـي أمرّ عليه مرورًا سريعًـا، أنظـرُ إلى واجهات بلون اللؤلؤ، ملابسٌ لا أكاد أنظرُ لليها إذا جعلني الرقم المعلّق بها أعمـى أو شِبهَـه، وساعـة بلغـتُ الأزقّـة القديمـة، بلاصة النصارى وبلاصة العرب، عدتُ إلى عفويتي وعادت إليّ، أحمـلُ هذا السروال وأفاكِـه هذا البائـع حول نوعيّـة ذاك الحذاء، أماحك وأبالغ في المماحكـة، أضحك بصخب وأتكلّـمُ دون أن أحسبَ حسابًـا....هـذا هو مكانـي، قلتُ في نفسي، وأنـا أقفـلُ عائدًا إلى البيت...