الاثنين، 28 فبراير 2011

أخنوخن


··· واهمٌ إن كنتَ تتصوّر أن حبال الحلفاء المجدولة التي نعقل بها النوق تفوقُ اللثام اللميس - كالذي يلفّ رقبتيَ اللحظة - قسوة، مثلما واهمٌ ذاك الذي تستلبه نعومة الرمال فيرتمي عليها متأفّفًا الصخورَ الرمادية الصلدة· أسمعُ أصواتًا وأرى صورًا، مَن هذه التي تتكلّم وسط الجعجعات واللقلقات والهمهمات والمواويل؟ ما لهذه الألوان تتشاطح مثل سرابٍ غاو؟ أمّا الصوتُ فقد عرفتُه، لِوالدتي ''أخنوخن! لا تكن شريرًا، لا تقطع أغصان الطلحة وهي غضّة، لا تجتثّ العشبة من جذورها يا أخنوخن، إيّاك ثمّ إيّاك واصطياد أنثى الودّان الحبلى، أخنوخن يكفيك تأمّلاً في الصور التي تركها لنا الأسلاف فلا تشوّه تيفيناغ، حسبك هذا لتكون خيّرًا يا ولدي، يكفيك هذا حتى تكسبّ ودّ إخوتك بنو الجنّ''· أمّا الصور التي أرى فالضباب يلفّها، تبدو ألوانها وضّاءة متزاحمة، لا تقُل يا أخنوخن إنّ سخرك إيبراضن اختار هذه الساعة ليرسم متاهته، سأضحك طويلاً بعد موتي إن حقّ هذا· 
··· أشعر باللثام يخنقني، الأصوات بدأت تخفت والألوان بهتت فلم يبقَ منها غير سواد وبعض بياض، هذا هو الموت إذًا، لكن ما هذه النار التي يصطلي بها بطني؟ هل الروح مكمنها البطن؟ أحدّث آنهي بهذا؟ قد يكون، أوليس البطن والشبع هما سبب ما إلتُ إليه، ألستُ من بخث عن اللهو بعد شبَع فأطاح بطلحة صنع منها فخًّا، وعند انتهاء التلهية المشؤومة اكتشف أنّه انضمّ إلى معشر القتلة، ما أشقاك يا أخنوخن! نعم أنا أخنوخن إبن الطاسيلي قتلتُها بيدي هاتين اللتين تحاولان الآن عبثًا فكاك عنقي من اللثام، مذ وعيتُ اللثام وهو يدرأ قرّ الشتّاء وحرّ الصيف عن رأسي، وهاهو اليوم يجهد لاقتلاع نفس الرأس من جذعه، أنا أخنوخن الذي سقط في أوّل امتحان، كلاّ لا تظنّ أن موتك كفيل بأن يكفّر عما جنيته، ما أشقاك يا أخنوخن!
··· لم يعلق من والدي سوى شذرات لا يسعني معها أن أكوّن صورة كاملة عنه، أمّي كانت كل شيء، لا غرو في أنّني إلى السابعة من سنيّ عمري وهي تلقمني ثدييها كلّما عدتُ مساء من رعي الجديان، أما صباحًا، فكان يحلو لي مراقبتها وهي تمخض اللبن، فتجدها تنخرط في نوبة وجد لا علم لي أين تذهب بها، قد تمتدّ نوبتها إلى القيلولة، لم أسألها يومًا، لا أعلم لما، ما أشقاكَ يا أخنوخن! سمعتها في ذلك الصباح من خفيّ بين صخور الطاسيلي، وها أنذا أهتف بها لنفسي: ما أشقاك يا أخنوخن!، لقد تحوّلت النار المستعرة إلى زمهرير يجوس أمعائي، الآن أدركتُ لِما شعرتُ بالقلق وأنا أتلمسُ يد والدتي الباردة وهي مضطجعة عند فوهة الكهف، يومهَا أفقتُ على مشهد لا عهد لي به، لم أجدها كدأبها تُراقص الشكوة هائمة في الوجد، لمحتُ قبس الشمس يكاد ينفلتُ من خلف شَعَف الجبال، لم أعمد إلى إيقاظها، تذكّرتُ حينها ما كانت تردّده أنّه لو طلعَت شمسُ الطاسيلي على امرأة نائمة فذاك نذير شؤم ما بعدهُ شؤم، ابْتَسَمتُ، انجلى عليّ الآن انبهام تلك الإبتسامة، ساعتها كنتُ أخنوخن الحقيقيّ، أخنوخن الشرّير من ابتسم وإلاّ فما مردّ الغبطة التي شعرتُ بها وأنا أرتقبُ تلعثم لسانها أمامي وهي تعلم بأني شهدتُ مباغتة القرص الأصفر لها، خاب ظنّي لدى عودتي من الوادي بآنية الحليب في يمناي وربما حَسُن، وجدتها لا تزال نائمة، وتمّت كذلك· استحالت الغبطة إلى قلق، حرارة الشمس التي ألقت بأشعتها تحوّلت إلى برودة استشعرتها في يدها وأنا أحاول إيقاظها، عندما نظرتُ إلى وجهها لمحتُ عينها اليمنى التي كانت تدمع كلّما أتت على ذكر الصحراء، القبيلة الطيّبة الجنّ، الأشجار والأعشاب التي تبكي وتتألم وتفرح مثلنا، لمحتُ العين اليمنى نِصف مفتوحة، ينعكس على سوادها النور فتحدّث بتعبير غامض···
··· اللثام الأسود لا يزال يُحكم على رقبتي، صِرتُ أشعرُ بتعرّق في كامل جسدي، جسدي نصفه حارّ ونصفه بارد، هو الموتُ إذًا، عندما كنتُ صغيرًا كان يستهويني العرق الذي يتصبّب من كامل جسدي وأنا ألاحقُ شقاوة الجديان بين الأودية والصخور والقمم، أنتشي كلما استلقيتُ تحت أشجار الطلح، فيتحوّل ذلك العرق الذي يبلّل جلبابي إلى برودةٍ تجعلني أهزء من سياط الشمس اللافحة، مرّةً غفوتُ وأنا أنتشي بالبرودة التي عمّت جسدي، عندما استفقتُ وجدتني بين قبيلة تجار بهيّي الطلعة، أكرموني بالتمر وخبز الشعير، قضمتُ الخبز ودسستُ حبّات التمر في جيبي، لما أريتها أُمّي ابتسمت، ندّت عنها ضحكة جميلة وهي تسمع حكايتي مع التجّار، بعد وقت طويل من ذلك علمتُ لما همّت بالكلام بعد أن سمعت حكايتي ثمّ وأدت كلماتها، والحقّ أنّها أرجأته إلى أن صرت يافعًا، أرسلتني يوما بالجمال إلى المراعي، في أوّل يوم عقلتُ الجمال وتركتُ الثني طليقًا ناسيًا أو متناسيًا ما سمعته من أن الجمال المقيّدة تسير أضعاف ما تسيره الطليقة، فهي في صراعها للتخلّص من القيد لا تلوي على شيء، لن توقفها الجنان الغنّاء ولا الأراضي المفروشة بالنجيل، لن تُغريها رقرقة المياه، لا همّ لها سوى القيد الذي تسعى للتخلّص منه بالسير والتقدّم، أفقٌ يعقبهُ أفق وخفٌّ تقتفي أثر الأخرى، وإن حضر الثني الطليق فهو كفيل بأن يفعل بها ما يفعله سخرك إيبراضن بالصغار، سيضاعف إحساسها بالقيد وهو يتقافز أمامها، غاب عنّي ما يحذّر منه حكماء الرعاة، ثنّيتُ الغلط عندما فكّرتُ أن الجمال لا يسعُها الإبتعاد بالقيد فاستثقلتُ قربة الماء، مشيتُ يومًا فيومين ووجدتني في آخر النهار أترنّح ظمأً، قالت والدتي أنّ الصحراوي إن لم يمت بأحد ثلاثة: الظمأ، أو السيول أو البغتة فسوف يبلغ من العمر عتيًّا، كدتُ أقضي بأول الأسباب لولا قبيلة كريمة وجدت نفسي بعد أن زايلتني الغيبوبة محاطًا بعنايتها، ارتويتُ عندها بماء لم يسبق لي تذوق عذوبته، ازدردتُ طعامًا ما كنتُ أتصوّر وجودًا لمثله، رفعتُ رأسي فهي جمالي باركة في سكينة فيما يلي الخيام، وعند إحساسي بالعافية هممتُ بالرحيل، سار معي شيخ منهم أعتقد أنه الزعيم، ودّعني مُصافحًا وقال ناصحًا ''مِن آي نُبل الصحراوي ألا يلجأ إلى قيد إبلِه''، عند عودتي إلى البيت أعدتُ على والدتي ما حدث، تكلَّمَت هذه المرّة ولم تُبطن كما حدث من قبل، قالت: لقد غدوت رجلا يا أخنوخن، وثمّة ما لا بدّ لك من معرفته، سكتت فترة بدت لي طويلة حتّى كدتُ أستحثّها أن تُكمل لولا أنها سبقتني: هذه الأرض يا ولدي، هذه الطاسيلي التي نعيش عليها كانت قطعة من السماء، من فردوس السماء، سكنها قبلنا الجنّ، وهم أهل الصحراء الحقيقيون، استجار بهم أسلافنا من الجوع فأجاروهم، على أن يقبل بنو الإنس شرطهم، أتعلم ما كانهُ الشرط يا أخنوخن؟ إنّه نفس ما أنصحك به، لا تبتروا فروع شجرة لم تزل خضراء، لا تجتثّوا عشبة من جذورها، لا تذبحوا ضبًّا، ولا تفتكوا بأنثى ودّان وهي نتوج، عاش بعدها أجدادنا بين ظهراني الجنّ في خير ينعمون، حتى جاء العام الذي هبّ فيه القبلي برماله، فجفّت الينابيع، وحلّ الجوع بديلاً للشبع، إبتزّ الظمأ مكان الرُوُيّ، وصار الضيق نِثارَ محوٍ للسِعة، فانبرى الإنسان للأغصان يقطعها، إجتثّ الأعشاب وأكل جذورها، ذبح الضبّ واصطاد أنثى الودّان وهي حبلى، وختمها بأن كمنَ إنسيّ لجنيّ فقتله بسبب سباق حول عذراء كان لهما، عندها يا أخنوخن انسحب أهل الصحراء الحقيقيون إلى الخفاء وتركونا في صحرائهم هائمين، لا تنسَ يا ولدي أن الجنّ إخوتك في الدمّ، وهم أخيار ونحن أول من أبدى الشرّ··· هم من أنقذ حياتك بالأمس وهم من أعطاك التمر وخبز الشعير مِن سنين···
··· ما هذا الذي أحسّ؟ شيءٌ أشبه ببيضة نعام تصعد في جوفي تكاد تبلغ صدري، هو الموتُ إذًا···
يوم وفاتها زارني شيوخ يرتدون زيّ التجار، علمت أنّهم من الجنّ، سهر معي الشيوخ ثلاثًا وطهت نسوتهم حساء زكي الرائحة لم ينجحن في سعيهن الحثيث بأن أتذوّقه، في ثالث يوم تركتني القبيلة الطيّبة واتّجهوا غربًا، إلتقوا بالرعاة فأخبروهم بالوفاة ليتقاطر بعدها الإنس، فوجدوا أن الواجب سبقتهم إليه قبيلة أنبل منهم وأكرم، في الأيام التي تلت عدوتُ بين الوديان كمجنون ينوح ويرغي فسمعتُ الجنيّات ينحن معي، الدمعتان اللتان أحسّهما تنحدران من مقلتيّ الآن أصدق دمعتين لي في هذا الوجود، لم أرَ منهم غير الخير، أما أنا فلم أكُن إلاّ محاكٍ لأسلافي الذين أبدوا الشر لهؤلاء الأخيار، عمّ الطاسيلي هذا العام خير لم يشهد شيّابنا مثيلا له، فاضت المطامير سمنًا وتمرًا، وامتلأت بطون أبناء الصحراء لحمًا وحليبًا، قصدتُ يومًا وادي أميهرو، قادني شيطان الشبع إلى التسلية فأطحت بطلحة وصنعتُ فخًّا لا لشيء إلاّ لألهو، بعد ثلاثة أيام من ذلك سمعتُ التّهمة لأوّل مرّة وأنا أحتطبُ، لقد جاءني الصوت من جهة كهف شديد الظلمة، هتف ''ما أشقاك يا أخنوخن! لمَ قتلتها؟''، لم أفهم يومها مقصده، بل استغربته، فكثيرة هي المرات التي سمعت فيها نداءات وأصوات أهل الخفاء، لكن أن أُرمى بالقتل فهذا ما لم يحدث قطّ، مساءً آثرتُ النزول من الكهف والاضطجاع بالقرب من الجمال أسفل الوادي، لم أعِ كم من الوقت مضى عندما انتبهتُ للجلبة التي أحدثتها الجمال بفزعها، كانت باركة فهبّت واقفة مهّددة بالهرب، ما كنتُ قد استعبت الأمر جيّدا عندما رفسني على عجيزتي، وهوى عليّ بهراوة لا شفقة فيها، لم يتوقّف إلاّ بعد أن صرختُ طويلاً ''كفى! كفى!''، سمعتُ خشخشات الحصى والرمل تحت قدميه وهو ينسحب، لقد كانت ضرباته موجعة ويداه شرستان، عندما بركت الجمال ثانية وعادت تجترّ من جديد تأكّدتُ أن الزائر الثقيل قد ابتعد، حضرتني ليلتها ما كانت تقوله أمّي من أن فزع الجِمال بلا سبب هو آية على إقبال أهل الخفاء، اضطجعت على ظهري وطفقتُ أتحسّس مواقع الوجع، وفي غفوة بدت لي كومضة البروق التي تسبق سيول الطاسيلي تمثّلت بوضوح صورتي وأنا أصنع الشَرَك، لم أنتظر طلوع الفجر، سرّجتُ المهريّ وقصدتُ المكان الذي اختارني للتسلية منذ ثلاثة أيام، وصلتُ والشمسُ في أوّج جبروتها، لحن السكون السرمديّ يرقص على إيقاعه سرابٌ يُلاعب شَعَف الروابي والتلال، لمّا وقفتُ أعلى الحفرة اقشعرّ بدني، لقد طالعتني بخوائها، سقط الودان في الشرك وجرجره معه، سرتُ يقودُني الوادي في اتّجاه الجبل، فلم يغب عنّي من أن وجهة الودّان أبدًا إلى القمم، عثرتُ في مسيري على قطرات دم، بضعُ بعرات هرستُها بين أصابعي فحدستُ من تيبّسها أنّها تعود إلى ثلاثة أيام، الودّان سقط في الشرك في الليلة التي تلت نصبه، حينما اقتربت من القمّة صادفتني صخور ملساء رقمها الأسلاف بتيفيناغ، تُهتُ مع الخطوط أتأمّلها حتّى أفزعني نعيق غراب يحوم، رفعتُ رأسي فإذا به المشهد الذي جعلني ألطم وجهي صارخًا ''ما أشقاك يا أخنوخن! لمَ قتلتها''، استطاع أن يجرجر الشرك إلى القمة، علق بين صخرتين فهوى الودان، ما أشقاك بفعلتك يا أخنوخن، وقف طائر جارح على الحيوان الذي بقي معلّقا يتأرجح في الهواء، بقر بطنه فمشيمته ف··· ما أشقاك يا أخنوخن، من بين الدم الممزوج بالمخاط أطلّ رأسٌ صغير، لقد كانت حبلى، ما أشقاك يا أخنوخن··· شعرتُ بالغثيان وأنا أنزل من القمة عدوًا، تقيّأت بصوت أرجعت صداه القمم البعيدة، أكانت تبكي تلك القمم أم يا تراها كانت تقول بلغتها ''ما أشقاك يا أخنوخن! لمَ قتلتها''؟···
··· ها هي إحدى العَبَرتين تتسرّب إلى فاهي وها هي ملوحتها تلمسُ طرف لساني، الشيء الذي هو في حجم بيضة النعام أسفل صدري في مكانه لم يزل، اللثام لم تثبط عزيمته بل كأنني أسمع تكتكات غضروفٍ يتفتّت في عنقي، ليلتها عرفتُ مقصد الهاتف وتأكّدت من أنّني لم أُحسن الإختيار، آثرتُ طريق الشرّ، يومها قرأتُ في عين الودّان اليمنى ما قالته عين والدتي نصف المفتوحة، وهي تعكس أشعة الشمس عند فوهة الكهف، تكرّرت زيارات الجلاد، كان قاسي القلب، يضرب بشراسة غير أنّه كان أرحم منّي، كان في كلّ مرّة يتجنّب رأسي والمواطن المُميتة، فما أرحمهُ من جلاّد وما أشقاك يا أخنوخن!···
··· تكرّرت زيارات الجلاّد حتى اعتدتُها، أصبحتُ ذليلاً مثل حمار حرن ولم يقم فأراد صاحبه إذلاله وفي اعتقاده أنّ التي بالحمار عزّةُ نفس، حدث لي ما حدث للحمار ذات ليلة فحاولتُ الفرار من إحساسي بالخسّة، عدوتُ وهو خلفي بهراوته، وصلتُ إلى أدبني، صادف أن قادتني قدماي إلى القبر الذي سكنته والدتي منذ شهور، توقف الجلاد عن ملاحقتي فعلمتُ مكانتها عندهم حتّى وهي تحت التراب، وجدتُ القبر ملاذًا فغدوت أتوسّد حجارته، لكن الملاذ عاد فتصور لي سجنا، فأين أنا من غدوّي ورواحي في أطراف الصحراء، أضحيت مستجيرًا بكومة من التراب والحجارة، ما أشقاك يا أخنوخن!، عزمتُ التخلّص من السجن فوجدتني ليلةً أفتح القبر لأحمل جمجمتها، هالني ما آلت إليه، لم يبق ما يدلّ عنها غير خصلة شيباء بقيت عالقة، حملتُ الجمجمة في جراب وعدتُ إلى الصحراء أهيم، لم يقربني الجنّي طيلة المدّة التي كانت الجمجمة معي، لكن للقدر دوما ما يخبّئه، داهمني السيل في إحدى الليالي فجرّني ومتاعي، ليلتها كدتُ أقضي لولا أن استعنتُ بطلحة تعلّقتُ بها، سيل الطاسلي مارد، لا يضيره إن كنت إنسيَّا أو قشّة، شجرة طلح أو بعرة، كلها سواء وكلّها لعبة لألسنته، ما أشقاك يا أخنوخن! زايل الوادي السيلُ بأسرع مما حلّ، بحثتُ عن جمجمتها فلم أعثر سوى على جزء من السرج وقطعة الوبر التي أوهمتُ نفسي بأن تعبير الفجيعة سيختفي إن أخفيتُ بها غور العين اليُمنى، ما أشقاك يا أخنوخن! في تلك الليلة زارني جلاد الليل، لم يصطحب معه هراوته بل جاء بما هو أقسى، قال ''ما أشقاك يا أخنوخن، هل نسيتَ أنها كانت تزورك بعد أن ماتت كل ليلة لتغنّي لك في الكهف، لكنّك عندما طلبت منها اللبن كان عليها أن تتحوّل إلى أمّ، تحوّلت إلى أنثى ودّان حبلى فاصطدتها، ما أشقاك يا أخنوخنئ! هي والدتي أيضًا يا أخي، فلمَ قتلتها؟'' انسحب وراح يردّد بصوت شهيق ''ما أشقاك يا أخنوخن!'' عدوتُ مثلما لم أعدُ لأجد نفسي في قمّة الجبل، رمتُ الفَناء فهويتُ إلى الوادي السحيق، لكن طرف اللثام علق بنتوء الصخرة المرقومة بتيفيناغ فبقيتُ معلّقًا، القدَر رأى أن يأتيني الموتُ -كضحيّتي- لا أن أذهب إليه··· بيضة النعام صعدت إلى الحلق وأحكمت إغلاق ما لم يقدر اللثام على سدّه من منافذ··· هو الفناء الذي أستحقّ إذًا··· فما أشقاك يا أخنوخن!
معاني الكلمات التي وردت بلغة الطوارق
تيفيناغ: الكتابات الموجودة على صخور الطاسيلي·
آنهي: كتاب مقدّس بالنسبة للطوارق يحتوي على حكم الأوّلين·
أدبني: قبور الأسلاف·
سخرك إبراضن: طائر زاهي الألوان يقال إنه يستدرج الأطفال لأن يتبعوه ليُتيههم في الصحراء·

الأحد، 20 فبراير 2011

أما آن لك أن تترجّل؟... الفراعنة اليوم روحُ موسى، ولروحٍك هذه الإنحناءة يا بوعزيزي


... إنه صباحٌ من صباحات يناير التي تحملك على التلفّع بالخشن من الثياب، سِرتُ يومها في واد غير ذي زرع، ألفيتُه كدأبه معتليًا صخرته الرمادية، ما إن لمحتُه حتّى قهقهتُ فتضاحكت الكهوفُ تُجاريني، مزَجَت نظرتُه التي حدجني بها القليل من التساؤل بالكثير من البلاهة، لم يضحك مثلما كان يفعل دومًا، ''انقلبت الأدوار اليوم'' حدّثتُ نفسي.... 
- هل أنتَ مصرّ؟... سألتُه
- وهل أتيتَ بعد كل هذه الأعوام لتركسني؟.... ردّ وابتسامته إلى السخرية أقرب.
أقعيتُ في ظلّ الصخرة فبدا لي أعلاها على غير عهدي به، رحتُ أتأمله علّ ما تبدّل فيه ينجلي، ولما طال بي الحالُ سألني ضجِرًا ''ما بك اليوم؟... أنت تُخفي شيئًا؟... أتمنّى ألاّ تكون قدماك قد نسيتَا موضعهما''، لم أُلقِ بالاً لكلامه وأقمتُ أسبرُ تقاسيم وجهه وشعور يلفّني بأنّه ليس نفس الوجهَ الذي أراه كلّ مرة، كانت شفتاي تبتسمان بظفر على وقع صوت يقول بداخلي ''أتى من يُنزلك من عليائك يا ابن....''.
- إن لم يكن لديك ما تقول فذهابك أفضل، لدي ما أعمله...
- إنزل وجالسني هنا حتى أقول...
- ماذا؟... هل جُننت (قاطعني وبنبرة غاضبة) أنت؟ أنت تُحاذيني؟ وربّما لمس كتفي كتفَك؟... أنسيتَ من تكون ومن أنا؟ حقًّا إنّك لَ....
- الحقيقة أنّك تضطرّني -كلما نظرتُ إليك- على ليّ عنقي الذي أصبح يؤلمني من فرط إبقائه معوّجًا...
قهقه طويلا قبل أن يردّ: إسمعني جيّدًا، لستُ أنا من يرتاع لألمك، إبق كما أنت، أنت هنا وأنا هناك (وهو يُشير بسبابته الأرض ثمّ إلى السماء)، وربّما أتيت تقول لي يومًا ادعني أصعد أعلى الصخرة معك، أرجوك!!'' قال هذه العبارة مُتصنِّعًا صوتًا ذليلاً.
- لكن الحال اليوم غيره الذي كان... وفرقعتُ في وجههِ قهقهةً أردتُ لها أن تكون أطول من قهقهته، عندها مطّ بوزه وزوى ما بين حاجبيه متفكّرًا، أما أنا فجعلت أنكتُ الأرض بأحد العيدان التي أتى بهاالوادي موسم فيضانه، وقبل أن أرمي به غير بعيد كنتُ قد نهضتُ فصار رأسي في مستوى رُكبتيْه، وعدتُ أرنو إليه بسخرية أربكته، قبل أن أسأله ''أما آن لك أن تترجّل؟..''. لم يحر جوابًا لأن مشروع كلمة بدت كهمهمة على شفتيْه لم تلبث أن تلاشت باشتداد ارتباكه الذي تحوّل ارتعادًا حتّى خيل إليّ أنّه سيهوي من أعلى الصخرة، ضحكتُ قبل أن أُكمل: أجَل، إني أعي ما أقول، أما آن لك آن تترجّل من عليائك؟... هذا زمن طويل مذ أهنتمونا أنت وأمثالك واستكبرتم، سلفكم ردّ يوم طُلب منه السجود بأنّه من نار ونحن من طين، ها هو واحد منّا - وسحبتُ صورة جسدٍ يشتعل -... قاطعني وهو يُحدّق في الصورة بعينيْن حسِبتهما ستتحرّران من محجريهما ''أبدًا، أبدًا، هذا الذي أرى ليس بشرًا، لا لا تُعِد أمامي مثل هذا الكلام''.
- كلاّ يا عزيزي هو بشر، شُعلة النار التي تراها بشر مثليّ - صمتُّ قليلاً ثم أردفتُ بعد أريته صورة نفس الشاب مُبتسمًا - وها هي صورته، أليس هذا إنسان مثلي، مرّت السنون والأعوام والقرون عن تلك القولة التي اتخذتَها وأمثالك شعارًا ''أنا خلقتني من نار وهو خلقته من طين'' واليوم هانحن نُريكم أننا نستطيع حين نشاء أن نكون نارًا، أما آن لك أن تترجّل؟...
وقبل أن أُتمّ كلامي كان قد وثب من أعلى الصخرة وراح يعدو في مجرى الوادي وصوتٌ غريب يقتفي أثرَه لم أتبيّنه أقهقهة كان أم نحيب...