السبت، 13 فبراير 2016

أصائـلُ باريـس


لو كان ما سأنثره، هنا، يعدو اليوميات إلى القصّـةِ القصيرة لراهنتُ، بغير قليل من الثقة، على "دافقَة الباغيت*" كعنـوان بليغ لها، أتملاّهُ إذ هـو يقزحُ بالألوان، نكهتهُ متبّلـة وموسيقاه ذات وقع على الأذن كما الأناغيم، أنظرُه وقد استوى كوكتيلاً فيه من الشاعرية بقدر ما فيه من مسحات النوستالجيا، من العجائبيّ ومن المجازيّ والأسطوريّ كلّ أخذ لـه نصيبًـا وإلى العنوان أعطى...
ككلّ مسـاء، قطعتُ المائة متر التي تفصلُ، أو بالأحرى تربِط البيت بالمخبزة، وهي رصيفٌ قديم التبليط، قوالبه المستطيلة التي رصفتها، بمهارة، يدٌ فنّانـة انقسمت ألوانها بين القانيّ وما هو بلون النبيذ، وسأقرّ، لم تُسعِفني، إذّاك، معارفي، وأنا الطالب السابق شعبة الهندسة المدنية، في القطع بما، مِن اللونين، لهُ الأسبقية، لكنّ المرجّح، والطبيعة، لا أعرفُ لماذا، يحلو لها تدكينَ الأشياء، أنّ القوالِب الحجرية كانت، كلّها، في البدء، بوردوليّة الحُمـرة، ومع الزمن أعملَت الطبيعةُ الريشةَ والإزميل، على ما تشاء، من حجرٍ، وعفَت عن ما تشاء، بالطّبـع ثمّـةَ ما ستتفلسف به العلوم في هذا الموضوع، وسيكون من شأنِ رأسي، فيما أسمعُ تلك المعادلات الكيميائية وتلك العناصر يحمل أغلبها تسميات على أوزان الفعلون والتفعولين والتفعيلان، أن يُصابَ بالصداع، كاملِهِ ونصفيّه، وهي، لستُ آتي جديدًا، تفسيراتٌ صحيحة كلّ الصحّة، أمّا أن يكونَ اسم المفسِّرات العلوم الدقيقة فتلكَ هرطقة وسقط كلام، لا أذكُرُ عالمًا رأيتُـه يخوضُ في اكتشاف جديد إلاّ وومضت في تقاسيم وجهه، وفي إيماءاته، وفي نبرتِـه تردّدات واهتزازات وأطيافَ توشـي بعدم ثقتِـه فيما يخوضُ تلك الثقـة المطلقـة، كان الأَوْلى أن تقصر تسميةُ تلك العلوم بالعلوم وكفى، أمّا الدقّـة فلا معادٍلَ لها سوى الموات، الدقيقُ من الأشياء يستدعي بلوغ أطراف الجذور، يرسو في الضفاف، وهذا، للمفارقة، يُناقِضُ بسملـةَ علومٍ لا نهايات لها ولا ضفاف...أعتقِد أنّ العلوم لا يمكنها أن تكونَ بذلك العداء للأديان وإن ناكفت هذه تلك وقزّمت تلك هذه، فهي، أيّ العلوم، وإن أنكرت زمرة من العلميين، لا تخلو من إيمانٍ بماورائيّـات تُغري ببلوغ مراتعها، وفي اللُهـاثِ السُرمديّ إليها، بالضبط، تكمُـنُ منجزات الإنسانيّـة...
عند عتبةِ المخبزة زجاجيّة الواجهة انتهت مسيرة المائة متر، وقبل ذلك بخطوات، في لحظة بالغة القصر، سطعت شمسُ المغيب، ثمّ اختفت، تلألت، على نورِها رمّانيّ اللون، خضرةُ طحالِبٍ طابَ لها أن تزدهر في البقع غير المطروقة من الرصيف، وفي جذوع الشجر ومنابت الجدران، شعّ الفاتح منها حتّى تحسبُ أنّه بسبيلِه لأن يضيء، وظلّ الغامقُ على غموقه وإن بدا لي أنّه على شيء من اللين، أو ربّما الضُّعـف، أمام الضوء، كـان على استعداد، لو طال بالشمس المقام، أن يتنازَل، شيئًا فشيئًا، على حلكتِـه...
كنتُ، وأنا أبلغ عتبة المخبزة التي تلوّنت إطارات واجهتها بالأحمر، مملوءً بزهـوٍ وثقـةٍ تداني الخيلاء، فالحذاء الجديد الذي انتعلته كان لسوادِه، وأنا أسير على الرصيف، لمعان، ولجلدِهِ صوتٌ بين الأزيز والصرير، وللدفء الذي أشاعه في قدميّ لذّة، ثمّ إنّني، وأنا أطرقُ به تلك الحجارة الصلدة، القانيّ منها وما هو بلون النبيذ، تبيّنتُ الصوتَ فإذا به صوتان، أوّلهما ما بلغني من قدمي اليسرى، وكان حادًّا، على درجة من الصرامة، فيما بدا الآخرُ، طرقُ القدم اليمنى، كرجع صدى لليسرى، رخوًا، إن صحّ وصفُ الأصوات بالرخاوة، ممطّطًـا، كانت القدمُ اليسرى، رغمَ تماثُلِ فردتيْ الحذاء، تضربُ في الأرضِ بثقـة وعزم، وكانت هيَ القائدة ومايسترو المعزوفة، معزوفة الحذاء، إلاّ أنّ هذا التباين بين الطقطقتيْن هو ما جعلني، طوال الطريق إلى المخبزة، أستمتِع بقطعة من الموسيقى لم تكُن بذلك الجمال لو تساوت الطرقتان...
دفعتُ الباب فرنّت، فوق رأسي، أعوادٌ مربوطة إلى السطح بسلك لا يكادُ يرى لرفاعته، كانت في حجم أقلام الرصاص، أمّا ألوانها الزاهية الراقصة ورنينها، فيما كلّها ينطحُ الكلّ، فقد عزفَت، هي الأخرى، ورسمت ما فاق قدرات حذائي والطحالبِ وقوالب الرصيف الفنيّـة، وصنعت، فوق ذلك، بهجةً تنمّ بصلة غامضة إلى عوالم الطفولة، يعوزُني التخمين في الصور التي كانت ستوحي بها هذه الأعواد الرنّانة إلى العجوزين، زوج وزجته، اللذيْن تجاوزتهما في طريقي إلى هنا، وكان لهمَـا، قبل أن أفعل، اليدَ العليا على القدم اليسرى فإذا بها تخفّف من حدّة المعزوفة وتضبطُ إيقاع السير بحسب مشيتِهما ذات التوقّفات العديدة، انشغلتُ بهما للحظات، تلفّع العجوز بمعطفٍ صوفيّ أسود، اعتمر برنيطة بنيّة، فيما جرجرت زوجُه شبشبًا قطنيًا بلون الورد، غطّت رأسها بإيشارب رماديّ ولفّت أطرافه، زيادة في الإحتراز، بعنقها، رأيتها تتوقّف، فتوقّفتُ بدوري، استدارت بنظّارة طبيّة ثخينة الزجاج إلى زوجها كمن تتحرّى صدقَ ما قاله، أمّا هو فقد كان يردّ عليها من فوق كتفه، دون أن يوقِفَ خطواته الوئيدة، بابتسامةٍ ووجهٍ بالغ الطمأنينة، تلتحق به وتحدّثه، من جديد، بصوتٍ ضعيف لم يسعني تبيّن كلماته فيردّ عليها، تتوقّف ناظرةً النظرة عينها، يستمرّ هو في سيره ويطلّ عليها من فوق كتفه على نحوٍ صيّر الزوجةَ، في نظري، لا يعيبها، أمام ابتسامتِه تلك، لو تصابت كعذراء، أربعُ همسات بأربع توقّفات ناظرة بأربع ابتسامات وضيئة كانت علاقتي بالعجوزين قبل أن أجدَ في تحيّتهما أفضل طريقة لبقة لتجاوزهما، وأسِفتُ، من وقفتي داخل المخبزة، عندما لمحتهما، عبر الزجاج، بنفس المشية، يمضيان في طريقهما دون أن يدلفا المخبزة، دون أن يمنحاني متعة تملّي وجهيهما لحظةَ ترنّ فوق رأسيهما تلك الأعواد الملوّنـة...
إنتظرتُ دوري، وقد سبقني كهلٌ سمعته يصفُ إلى البائعة نوعَ كعكعة عيد ميلاد طفلة، وربّما امرأة بالغة، تدعى إيميلي، وهو نفس إسم الطفلة إيميلي، ابنة بائع التبغ الذي عرّجتُ عليه قبيل مصادفتي للمُسنّين، سألتُ والدَها لحظةَ وضعَ أمامي علبة السجائر، فزمّ شفتيه الرفيعتين وهزّ رأسَه كالمتألّم وقال "إنّها مريضة"، لم يكُن من شأن الأسى المرتسَم على وجه والدها ليفاجئني، حتّى عندما علمت بأنّ مرضها بسيطٌ لا يعدو الزكام، فعلاقته بإيميلي وعلاقتها به غايةٌ في التناغُم، تتعدّى تلك العلاقة بين أبٍ وطفلةٍ في الخامسة من عمرها، أصادِفها في كلّ مرة أذهب إلى هناك، إلاّ فيما ندر، وفي كل مرّة أُعجَبُ بذلك المستوى الذي يحادِثها به، وبردودهـا الذكيّة التي تتجاوزُ عمرها بمراحل، كان جوّ متجر التبغِ اليوم على درجة من الصمت الكئيب، كلماتُ البائع، الذي لا أعرف بعد اسمه، وعلى اختصارِها راح يجهدُ لدفعها دفعًا كأنّـهُ هو المريض، احترمتُ حالته وودّعته، متنيًّا لإيميلي الشفاء، حتّى قبل أن أخفي علبة السجائر في جيبي...
فرغ، أخيرًا، الكهلُ من إملاء مواصفات ومكوّنات كعكة عيد ميلاد إيميلي، وفرغت، معه، البائعـة من التدوين قبل أن تصفق غلاف دفترها الصغير بنفسجيّ اللون، وهي تنظر بحزم إلى الكهل، وتضعُ القلم عليه فيتكّ، بما معناه "تمّ الأمـر"، قبل أن تنطلق عضلاتُ وجهِها بابتسامةٍ مودّعـة لا يملك الكهل، معها، إلاّ أن يذهب مطمئنًـا راضيًا غايـة الرضا...وجاء دوري وقد أصابتني، مسبقًا، وأصَبْتُ عدوى من طمأنينة الكهل...
يسوّر الشارع ،الذي قطعته إلى بائعة الخبز، بنوعٍ من أشجار السنديان، جذوعها تمتلئ بأشكال كالخرائط، يابستها ذات لون فضيّ باهت فيما بحارٌ تلك الخرائط، في مثالنا، فضيّتها أكثرُ لمعانًا، أغصانها، عدا الرئيسيّ الذي يستمرّ به الجذع، رفيعة، إبريّـه تتجّـه كلّها إلى الأعلى، تعرّت، والوقت شتاء، من أوراقها التي لا تختلِف، في شكلها، عن ورقة القيقب التي تتوسّط راية كنـدا، أمّا ثمرها الذي يبقى عالقا بأمّه لسنوات فكرويّ في حجم حبّة البلوط، تملأ قشرته الغضّة أشواك، رأيتها، اليوم، كأنني أنظرها للمرّة الأولى، فعريُ الأغصان، بخلفية من سماء تمتلئ بغيوم تتدرّج ألونها من الأبيض إلى الرماديّ الضارب إلى السواد، لا تقلّ، روعةً، عنها وهي ترتدي سندُسها في الربيع، كانت، وهي تبدو كالجطب الخالي من أيّ حياة، ترسمُ على السماء خطوطًا سوداء يفعلُ فعلَ خطوط اللغة على الصفائح البيضاء...
مع الوقت، تأتلِف الوجوه وتنزاحُ تلك الغربة فاسحةً المكان للارتياح والطمأنينة لتحتلّ المكان، وهكذا انتهى الأمرُ بي وببائعة الخبز إلى أن اعتاد كلّ منّا ملامِح الثاني، أشدّ ما شدّني إلى هذه المرأة الأربعينية، ليس أناقةِ ملبسِها، وليس سراويلها اللاصقة التي ما كانت لتشفّ عن بياض الماتحت لولا لونها الأسود، وليس مريلتها الوردية التي تغريني، وربّما أغرت غيري، عقدة رباطها، على شكل زهرة بتويّجات ثلاث، أسفل ظهرها، وهي تستدير لتلقط الخبز، بأن أمدّ يدي لأحلّها، وليس الذي شدّني ذا علاقة بروائح المخبزة والتي امتزج فيها عطر الحلويّات بعبق الخبز الخارج لتوّه من الفرن برائحةٍ تشبِه رائحةَ طحين الشعير يتدفّق من فوهة الرحى بعطر خاصّ لا تضعُ هذه المرأة غيره، وليسَ ما شدّني ألوانُ الخبز بأنواعه الذي بلغ تناغمها مع لون الرفوف، حيثُ تقفُ الأرغفة، درجةً تشكّ في أنّها رفوفٌ من خبز ناضج لا من خشب، ما شدّني قبل كلّ هذا وحتى أكثر من الأعواد الملوّنة ونغمها الطريقة الإحتفاية التي تكرّر بها طلباتي، بابتسامتها التي يستدير عليها وجهها ذي اللون الشبيه بلون رغيف نصفِ ناضجٍ من دقيق الذرة، تمنيتُ لو ملكتُ تسجيل احتفاليتها وموسيقى صوتها لحظةَ تكرّر، من خلفي، كلمة Baguette، كانت باؤها رقيقة في حين أن بائي، وأنا أنطق الكلمة، كانت مفخّمة شأن اللسان الفرنسيّ، وباؤها غيضٌ من فيض، فالباء كانت كومًا والباقي كومًا آخر تابعًا لها، كانت الكلمة تسيل من فمها، بل كانت ذاتَ دفقٍ...ذاتَ سحر...
ــــــــ
*- نوعٌ من الخبز الفرنسيّ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق