الخميس، 30 يونيو 2016

قابض الحافلة

حتّـى وإن كنتُ أكتبُ، الآن، من داخِلِ بيتٍ رُوِّض هواؤُه، وصار، برغمِ أنفِ الطبيعة، ونسائـم ينايـر صِنـويْـن، إلاّ أنّ يمناي، دون أن يكونَ لي في الأمر رأيًا ولا مشـورة، لم تجد بُدًّا من فكّ الزرّ الثاني لقميصي، جذعي مال إلى الخلف وكأنّ باليد لم تكتفِ بفكّ الزرّ فزادت على ذلك أن دفعت بجسدي يميل على مسند الكرسيّ، ملأتُ رئتيّ بالنسائم المنعِشة قبل أن يتمطّط بوزي مُستلِفًا شكل خطم، ليزفر، في الأخير، أنفاسًـا صفّرت مرّة وربّما مرتيْن، صببتُ ملامِحي في قالـبِ الضجَـر، وخيّل لي، في لحظة مـا، أن جبيني جعل يتندّى، فالنسائمُ التي أوردها ليست أكثر من انتشـالٍ لصورٍ كانت بسبيلِها إلى قاع الذاكرة، وفيما أنا أنتشِل ليس لي إلاّ أن أعود إلى وقفتي، اليوم، بالمحطّة تُكرِمني الشمس ما شاء لها الكرم وتلفحني، مثلَ كيرٍ، عوادِمُ الحافلات بما زفرتهُ المحرّكـات...
قفزتُ إلى الحافلة مع الأوائل فحظيت بمكان قرب النافذة، وحظيت بحرارة كان جوّ الخارج قياسًا بها أرحم، انتظرتُ مع المنتظرين، جالسوهم وواقفوهم، المتململون منهم وأولئك الذين خمدوا في استسلام للحرّ وهزيمة، انتظرنا إلى أن رصّ القابض الصائح حافلته بالبشر، نظرتُ إليه بعين معجَبة وأخرى متعجّبة، هذا الذي أغفلـه المعقّبون على نظرية التطوّر، ليس لأنّه تطعّم ضدّ الحرّ والقرّ وحسب، بل خلقَ له فوق ذلك، وربّما طوّر، فراسةً وبديهة وفطنة وسعة بال، لم يضِق بالنظرات المستنكَرة لمن أنضجهم طول الإنتظار، ولا قابَل صرخات البعض المستفزّة بأكثر من ابتسامة و"ضرك نروحوا يا خاوتي.. تحبّوا عليّ ؟"، أمّا وهو يسُلّ نفسَه سلاًّ من بين الأجساد فقد بدا أنّه تخفّف من عظامِه وانتهى إلى أن صار برخاوةِ وملاسة أفعوان، كان يجمع النقود، يرمي الوجه بنظرةٍ خاطفة، يمسِك النقود فيرصّها، إن كانت من ورق، في جيب سرواله الخلفيّ، على نحو ما رصّ به البشر في حافلته من قبل، ويلقمها في علبته السوداء إن كانت النقود قطعًا، يردّ ما يردّه من فكّة فيما يكون فمه يلهجُ بالشكر والدعوة بالتوفيق والصحّة والهناء، لم تُخطئ دعواته أحدًا وحظي أولئك الذين رموه بنظراتِ العداء والصرخات والغمغمات السابّة بشكر أكثر ودعوات أبلغ، ولم يتركهم إلاّ وهم بين مبتسمٍ وضاحك يردّ بالشكر على الشكر وبالدعوة على الدعوة وبالثناء على الإبتسامة، سيخيّل لك، كما خُيّل لي، أن بينهم وبين ما كانوا فيه، منذ لحظات، من سباب وامتعاض وتذمّر جملةٌ اعتراضية امتلك القابضُ ما محاها به، فابيّض السواد وغمُقت الهوّة وصارت حالهم، بعد أن كانت كلُاًّ، إلى جزءين وضفّتين دونَ الوصلُ بينهما خرطُ القتاد...
في أوبتي انصرفتُ بتفكيري وسمعي عن سائق التاكسي، مابالي والشرطيّ الذي سجّل عليه مخالفةً من خمس سنين ؟...وفي ماذا تعنيني الحرارةُ وقد أينعتُ بها ونضجت وأكاد أحترِق ؟...وأيّ جدوى تلك التي سأنالها من حديث عن الإزدحام ؟...كنتُ أتمنّـى أن يحدّثنـي عن أُنـاس كالقابض الذي صادفتـه، كنتُ في حاجـة إلى حديثٍ يصفُ البشر عسـاني أكتشِـف جديدًا غاب عن الداروينييـن...


Posted via Blogaway