يتبارى اليوم مع الغد، ويُسابقُ الأمسُ ما بعدَه وما قبلَه، إن هـيَ إلاّ سلسلة تناكف الحلقةُ الحلقة وتتململ هذه تطلب من الأخرى فكاكًا، تتلوّن بما نختارُه لها من أصباغ، أو ربّما، من يدري، تجرجرنـا هي، دون أن نعي، لنلوّنها بما اختارته هي، ومع ذلك نقول، يتلبّسنا غرور الآلهة، الساعة الفلانية مباركة والعلاّنية عليها اللعنة، وما كان لنا لنقف موقف الحكم لولا أنّ الزمنَ لا لسان لـه...
مــدونــة العيــــد بـــــالح
الخميس، 1 سبتمبر 2016
الخميس، 30 يونيو 2016
قابض الحافلة
حتّـى وإن كنتُ أكتبُ، الآن، من داخِلِ بيتٍ رُوِّض هواؤُه، وصار، برغمِ أنفِ الطبيعة، ونسائـم ينايـر صِنـويْـن، إلاّ أنّ يمناي، دون أن يكونَ لي في الأمر رأيًا ولا مشـورة، لم تجد بُدًّا من فكّ الزرّ الثاني لقميصي، جذعي مال إلى الخلف وكأنّ باليد لم تكتفِ بفكّ الزرّ فزادت على ذلك أن دفعت بجسدي يميل على مسند الكرسيّ، ملأتُ رئتيّ بالنسائم المنعِشة قبل أن يتمطّط بوزي مُستلِفًا شكل خطم، ليزفر، في الأخير، أنفاسًـا صفّرت مرّة وربّما مرتيْن، صببتُ ملامِحي في قالـبِ الضجَـر، وخيّل لي، في لحظة مـا، أن جبيني جعل يتندّى، فالنسائمُ التي أوردها ليست أكثر من انتشـالٍ لصورٍ كانت بسبيلِها إلى قاع الذاكرة، وفيما أنا أنتشِل ليس لي إلاّ أن أعود إلى وقفتي، اليوم، بالمحطّة تُكرِمني الشمس ما شاء لها الكرم وتلفحني، مثلَ كيرٍ، عوادِمُ الحافلات بما زفرتهُ المحرّكـات...
قفزتُ إلى الحافلة مع الأوائل فحظيت بمكان قرب النافذة، وحظيت بحرارة كان جوّ الخارج قياسًا بها أرحم، انتظرتُ مع المنتظرين، جالسوهم وواقفوهم، المتململون منهم وأولئك الذين خمدوا في استسلام للحرّ وهزيمة، انتظرنا إلى أن رصّ القابض الصائح حافلته بالبشر، نظرتُ إليه بعين معجَبة وأخرى متعجّبة، هذا الذي أغفلـه المعقّبون على نظرية التطوّر، ليس لأنّه تطعّم ضدّ الحرّ والقرّ وحسب، بل خلقَ له فوق ذلك، وربّما طوّر، فراسةً وبديهة وفطنة وسعة بال، لم يضِق بالنظرات المستنكَرة لمن أنضجهم طول الإنتظار، ولا قابَل صرخات البعض المستفزّة بأكثر من ابتسامة و"ضرك نروحوا يا خاوتي.. تحبّوا عليّ ؟"، أمّا وهو يسُلّ نفسَه سلاًّ من بين الأجساد فقد بدا أنّه تخفّف من عظامِه وانتهى إلى أن صار برخاوةِ وملاسة أفعوان، كان يجمع النقود، يرمي الوجه بنظرةٍ خاطفة، يمسِك النقود فيرصّها، إن كانت من ورق، في جيب سرواله الخلفيّ، على نحو ما رصّ به البشر في حافلته من قبل، ويلقمها في علبته السوداء إن كانت النقود قطعًا، يردّ ما يردّه من فكّة فيما يكون فمه يلهجُ بالشكر والدعوة بالتوفيق والصحّة والهناء، لم تُخطئ دعواته أحدًا وحظي أولئك الذين رموه بنظراتِ العداء والصرخات والغمغمات السابّة بشكر أكثر ودعوات أبلغ، ولم يتركهم إلاّ وهم بين مبتسمٍ وضاحك يردّ بالشكر على الشكر وبالدعوة على الدعوة وبالثناء على الإبتسامة، سيخيّل لك، كما خُيّل لي، أن بينهم وبين ما كانوا فيه، منذ لحظات، من سباب وامتعاض وتذمّر جملةٌ اعتراضية امتلك القابضُ ما محاها به، فابيّض السواد وغمُقت الهوّة وصارت حالهم، بعد أن كانت كلُاًّ، إلى جزءين وضفّتين دونَ الوصلُ بينهما خرطُ القتاد...
في أوبتي انصرفتُ بتفكيري وسمعي عن سائق التاكسي، مابالي والشرطيّ الذي سجّل عليه مخالفةً من خمس سنين ؟...وفي ماذا تعنيني الحرارةُ وقد أينعتُ بها ونضجت وأكاد أحترِق ؟...وأيّ جدوى تلك التي سأنالها من حديث عن الإزدحام ؟...كنتُ أتمنّـى أن يحدّثنـي عن أُنـاس كالقابض الذي صادفتـه، كنتُ في حاجـة إلى حديثٍ يصفُ البشر عسـاني أكتشِـف جديدًا غاب عن الداروينييـن...
السبت، 28 مايو 2016
عمّي الحـاج
الخميس، 19 مايو 2016
جولـةٌ مسائيّـة
في الشارِع، شارع الـ20 متر بالبليدة، لا تكادُ ترى سوى الأثرياء وسيّاراتهم الألمانيـة، احتكروه، أظنّنـي على شيء من الضيم بهذه الـ"احتكروه"، فلقد لفظ الشارعُ الفقراء بأن عرَض باعته ما يطلبُه الأثرياء دون سواهم، ولمّا كنتُني أقربُ إلى الفقراء منهم إلى الفريق الثاني وجدتُنـي أمرّ عليه مرورًا سريعًـا، أنظـرُ إلى واجهات بلون اللؤلؤ، ملابسٌ لا أكاد أنظرُ لليها إذا جعلني الرقم المعلّق بها أعمـى أو شِبهَـه، وساعـة بلغـتُ الأزقّـة القديمـة، بلاصة النصارى وبلاصة العرب، عدتُ إلى عفويتي وعادت إليّ، أحمـلُ هذا السروال وأفاكِـه هذا البائـع حول نوعيّـة ذاك الحذاء، أماحك وأبالغ في المماحكـة، أضحك بصخب وأتكلّـمُ دون أن أحسبَ حسابًـا....هـذا هو مكانـي، قلتُ في نفسي، وأنـا أقفـلُ عائدًا إلى البيت...
الخميس، 25 فبراير 2016
أصائلُ باريـس
من غرفتي، قبل ذلك، وقد انتصف الليل، تناوبت على أذنيّ أصواتٌ قادمة من الشارع شبه المقفر الصامت، صوتُ سكّيرٍ يسبّ صديقه فيما الصديقُ يقهقه، خطوات امرأة بدت، من إيقاع عقبيْ حذائها على الرصيف، أنّها على عجلة أو خائفة أو، ربّما، قادها إلى ذلك، دون أن تدري، قلبٌ هفا وجسدٌ ظمأ واشتاق، سمعتُ، أيضًا، أصواتَ سيارات تباعد وقت مرور إحداها عن الأخرى، بدا هديرُ الواحدة منها، وهي تقترِب ثمّ وهي تبتعد، أشبَه بما نسمعه لحظةَ نُخرطِم شفاهَنا بِنيّة التصفير، وقد نسينا ترطيبها، فيخرجُ الهواءُ دون أن ندرِك ما انتويناه، أمّا في المسافة بين السيّارة وهي تقترب وبينها وهي تبتعِد، في تلك القطعة التي أعجزُ من أن أحدّدها قياسًا، يُداخِلُ ذلك الصفير الصامت صوتُ غوصِ العجلات في ماء المطر، تمامًا مثلما تخرُحُ مع صفيرنا الصامت، إذا امتدّ وطال، أسلاكٌ وندفٌ من البصاق، "نعم نعم" قلتُ في نفسي "حتّى الأصوات يمكنها أن تتبلّل"، يطالُ الأصواتَ البلل وتجرح الأصواتُ القليلة الصمتَ وإلاّ ما أمكننا أن نعرِف الصمتَ ولا أن ندرِكَ عمقَه، وبسبب ذلك، كما أعتقِد، تصنعُ آذانُنا ذلك الصرير الخياليّ في الأماكن مطبقة الصمت...
أغراني الصفير الصامت، الصوت المبلّل، شتائم السكّير وطقطقة المرأة المتلهّفة، بأن أرتديّ معطفى وأقتحم الشارع لا ألوي على شيء، بلغ الجوّ، خارجًا، من الدفء بأنّ بدت معه كلّ تلك التحصينات التي غلّفتُ بها جسدي ورقبتي مجّانيّة، بل وقد تسمو لأن تكون، في نظرِ أحد ممّن التقيتهم، ضربًا من الفوبيا، في الشارِع وعلى ضوء المصابيح تهادت قُطيرات مطرٍ رذاذيّ، ورسمَت حول كلّ مصباح هالةً ضبابيّة واسعة حفّتها هالةٌ أصغر بألوان قوس قزح، مررتُ في سيري الذي امتدّ لأكثر من ساعتيْن على شوارِع منها ما كان مضاءً ومنها الخلفيّة بعتمتها، تلوّنت نوافذ المنازل الساهرة بألوان الستائر أحمرها وورديّها وأزرقها، قطعتُ ساحات وميادين ظهر على تماثيلها الوحدة والحزن، لمعت على أوراق الشجر قطراتٌ ذات أشعة كأنها شموس أو قطعٌ من النجوم سقطت من السماء، التقيتُ بالسكارى وهم يعودون إلى منازلهم أو في طريقهم لأن يغيّروا الحانة وقد ملّوا المكان حيثُ كانوا يشربون، وفي مرّتين تفصل بينهما لحظات قلائل، في زُقاق مظلم، وقعت قدمي على كتلتيْن طريّتين أدركتُ أنهما براز كلاب، من حظّي أنّ براز الكلاب هنا، لطبيعة ما يأكلونه، لا رائحة كريهة له، مضيتُ بعينين تفتّشان عن بركة ماء، ولمّا تعذّر عليّ ذلك لذتُ بعودٍ عثرتُ عليه في وقفتي قبالة المتشرّد شبيه سمكة الباجو، وملتُ أسلتُ به ما بقي عالقًا بجوانب الحذاء من براز، وعندما انتهيت من تنظيف الحذاء كانت سمكة الباجو قد قضت على اثنين من كانيتات البيرة وأعادتهما إلى مكانيهما الأوّل وقد تقلّصتا وتشوّه قوامهما...
لدى عودتي، مررتُ مرّة أخرى بالأفعوان، أو ماكان له شكل أفعوان، فقد صار إلى أشلاء وتعدّدت الفُسح بين أجزاء جثّتِه، أمكنَ شللاً الدخول إلى الحانة المكتظّة وقد غادرها بعض من كان فيها، وربّما أضنى الإنتظار شِللًا فراحت تبحثُ لها عن حانة ثانية، سرتُ نحو ربع ساعة، ثمّ انعطفتُ إلى شارع، لم أعبره أثناء مجيئي، رغم توفّره على أعمدة إنارة، إلاّ أنّ أشجار الجمّيز جعلته ذا ظلمةٍ مرقّطة بما سمحت به الأوراق والأغصان من ضوء، كان، في الواقع، شارعًا فرعيًا قصيرًا يربط بين شارعين رئيسيين، من أحد جذوع الجمّيز الضخمة، وأنا أحاذيها، انطلق صوتٌ "اسسسسسسسسست" وفي نفس اللحظة تقريبًا، وانا أستدير مشدودًا إلى مصدر الصوت، التقط أنفي رائحة عطر نسويّ، كانت واقفة تلتصقُ بجذع الشجرة حتّى أنّك تحسبها امتدادًا له، ومثل أرضِ الشارع بدت، على لطخات الضوء المتسلّل من بين أغصان الشجر، بشرةٌ سوداء، لمعان، جزءٌ من تنّورة جلدية سأغمطها حقّها إن أنا وصفتها بالقِصر، تكلّم الشبح فيما أنا أواصلُ، صامتًا، تأمّله "أترغبُ في ممارسةِ بعض الحبّ ؟..." كان الصوتُ لا يختلِف في تهذّبِه ودبلوماسيتِه وأنثويتِه عن ما سبق وصادفته لدى موظّفات الإدارات وبائعات المتاجر، بدأت، مع الوقت واعتياد عيناي العتمة، ملامح هذه المومس تتضّح، زنجيّة طويلة القامة هيفاء، بعينين باسمتين ذات رموش صناعية، بصدرٍ ثلاثة أرباعه نهدان، ساقين لامعتان ربِلتان، وعلى ضوء شاشة هاتفي، وقد وجّهته إلى وجهِها، مثل زبون يكفل له القانون حقّ الحرص على الجودة، ظهر على خدّها ندبٌ، ضربة سكّين، تبدو الحادثة، من خلال النقاط حيثُ آثار الخياطة، ليست بعيدة العهد، أدهشني انصياعها، عدم تنازلها عن ابتسامتها، لم يبدُ عليها الإستياء لحظة وجّهتُ إليها ضوء هاتفي، وبعد أنِ اعتذرت لها بديبلوماسيّة كديبلوماسيتِها "لم تمضِ ساعة منذ كنتُ مع إحداهنّ، لو كنتُ أعلم بوجودك هنا ما قبلتُ بها، نلتقي" اتّسعت ابتسامتها وتمنّت لي، بصوت خرجت معه أنفاس زكيّة، بقيّة ليلة سعيدة، لم أكُن أدري أنّ ما سأمر به من أشجار تختفي خلف أغلبها أخريات، كلهنّ زنجيّات، صغيرات السنّ، تفوح منهنّ عطور جذّابة، يعرضن سلعتهنّ بأدب وبلسانٍ لا يختلِف عن لسان عليّة القوم، وكلهنّ تمنينّ لي وقتا ممتعا، وليلة هنيئة...
وأنا في منتصف طريق العودة انتبهتُ إلى أنّ السمّاء أمسكت رذاذاها، اختفت الهالات القزحيّة من حول المصابيح، ظلّ صمتُ الشوارِع على حالِه، جفّ الطريق فاختفت تلك القطعة الصوتية المبلّلة، وانتهى صوت السيارات إلى صفيرٍ صامت متّصل، تجاوزتُ متشرّدًا سكرانًا كان يتحدّث، بنبرةٍ متوعّدة، إلى كلبِه الذي أطرقَ ببصرِه وسكن، كأنّه قدّر ما اقترفه من خطأ واعترف، بالقربِ من أحدِ العمارات فعمت الجوّ رائحةُ شراب الزنجبيل، نظرتُ إلى أعلى، شقّة واحدة فقط مضاءة، لا أدري لمَ رسم لي خيالي صورةً لصاحب هذه الشقّة، عجوزٌ اجتاز الثمانين، جنديّ قديم في ثكنةٍ بنواحي بشّار، كان حلاّق الثكنة، تأتأة لسانه لم تشفع له في الإعفاء من الخدمة العسكريّة، عاد من الجزائر قبل الإستقلال بعامين، تزوّج بصديقته التي انتظرته، لدى عودتِه، في ميناء طولون، ومنذ عودتِه، أمكَن الزمن أن يُصرِفه عن كلّ ما صحِبه من الجزائر إلاّ عن شراب الزنجبيل...
تمدّدتُ على السرير بعد أن تخفّفتُ من معطفي، شعرتُ براحة لذيذة بدت لي أنّها ستفارِقني لو غيّرت ملابسي، نمتُ كذلك بحذائي وبسروال الجينر والقميص الصوفيّ، وآخر ما مرّ على خاطري قبل النوم أمنيـة...كوب زنجبيل...
الجمعة، 19 فبراير 2016
تِـ بـ غُ الـ نَّـ مـلـة
التقيتها فأبْكَرتُ، في ذلك العمر الذي لم يكُن يقزّزُنـا أن نرى في حواف العيون قذًى فستقيّ اللون، ولا يعيب الواحدُ منّا إن غزَى رأسَه صئبانٌ يشحبُ عليه سوادُ الشعر، عرفتها أيّامَ كانت لها رائحةُ اللوز ومذاقُ لحم الجديان، حافيًا ألفتني ومهجورةً لمحتها، ورُحنا، مذّاك، نكتُبُ نصّنـا، سِفرَنا بصفحاته السوداء وتلك التي كتِبت بياضًا، خاصمتُها مرّات لستُ أعرِفُ أظالمًا كنتُ أم دافعًا لظُلم، هجرتها وعدت، وفي كلّ عودة كانت حبيبتي كانت فرقعاتها كانت جموعُ الشهداء مؤمنوهم وشيوعيّوهم، كانت جمرتُهـا هي هي فصّ رمّان من أرضِ الجنّ، كانت بعطرِهـا وقد التصقَ بملابسي والأنفاس ورائحة العرَق...
وقفتي، أصيل يوم ديسمبري، 2006، شارِع العربي بن مهيدي، وهران، كانت قد مضت خمس سنوات من هجراني حبيبتي، تعلو باب إحدى الأكشاش لافتة، قرأتُهـا، تهجيّتها، عقدتُ ما بين حاجبيّ، لستُ أستطيعُ، الآن، تذكّر المشاهد التي عبرت ذهني لحظتها، لكنّها كانت حاضرة، بوعد، بعهد، بوعيد، باشتياق وحنين، اقتربتُ من اللافتة المستطيلة الصفراء يحوطها شريط أحمر، رفعتُ رأسي إليها وأنا أعتِب الكشك دخولاً، وفي عتبي، وأنا أخرج، كنتُ قد بدأتُ، وإيّاها، طقوس الحبّ، طقوس العشق، التفتّ إلى اللافتة مرّةً أخرى وتهجّيتُ "تِـ بـ غُ الـ نَّـ مـلـة"...نعم حبيبتي هكذا، تحملُ روحُها كلاّبتين...
أطبقتُ، ليلـةَ أمـس، السِّفـرَ...أطبقتُـه...وكفـى...
الاثنين، 15 فبراير 2016
أصائـلُ باريـس
من وقفتي في العربة، عربةُ الترام المكتظّة الزاحفة، نظرتُ الرؤوس فإذا بها تهتزّ كبنادلَ، على كرويّتها جميعها، تمايزَت خطوط استداراتها وتباينَت ألوانُ ما غلّفتها من شعورٍ ومن أوشحةٍ وقلانس، راحت الوجوه تتلوّن بحمرةٍ بهيجة، فيما كانت الأفواهُ تتلافى إلاّ ما يُضحِك من حديث، أو أنّ الآذان هي التي كانت تتواطأ إذ ردّت كلَّ حديثٍ، مهما كانَ عاديًّا، إلى مدعاة للإبتسام، ثُمّ إنّ تلك الوجوه، شأنُها في المآدِبِ والأعياد، وكأنّي بها انفصَلت عن ما كانت تكابِدُه الأجساد، في الأسفل، من زنق وتململ، فأحدًا ممّن صادفتُهم، من الوقوف مثلي، لم أرى ملامحه وقد تشوّهت وتشكّلت سيما الضّجَر...
توالت المحطّات، وفي كلّ منها نزل من نزل وصعد من صعد، وفي كلّ محطّةُ كنتُ، قبل أن يصعد الصاعدون، أغيّر مكان وقوفي إلى حيثُ يظهرَ لي أنّه المكانُ الأريَح، ولم أكُن أعلم، حتى ذلك الحين، أنّ ثلاثة من المقاعد كانت، على مقربةٍ منّي، شاغرة، هي أربعةُ مقاعد، أو بتعبير أدقّ مقعدان يتقابلان ومقعديْن، احتلّ إحداها متشرّدٌ لم يبالِ، ربّما لاعتياده الأمر، بامتناع الواقفين من التجّرؤ على مكاتفته أو الجلوس قبالَتَه، لم أتردّد ولو للحظة، وأنا ألمحُه تحوطُهُ الأماكن الثلاثة، أن أعزمَ على احتلال واحدٍ منها، وكان عليّ، قبل أن يصير عزمي نافذًا، أن أربت، في لطفٍ، على أكثر من كتِف، أبتسِم، على سبيل الشكر المسبق، لوجهين أو ثلاثة، أتمسّح بظهري، بتمهّل قصدتُه، على صدريْن سرت إليّ منهما حرارةُ ما نفرت فيهما من نهود، كان على أنفي أن يتشمّم، بلهفةِ نعمةٍ لا تدوم، ضروبًا ساحرةً من العطور، وضروبًا أخرى سطَعتني على كرهٍ منّي مخلّفةً، فيَ، شعورًا كالغيظ...
كنتُ على تأهّب لأن ترمقني الأعيُن بنظراتٍ أدناها متعجّبة لحظةَ جلستُ قبالة المتشرّد، لكن لا شيء من ذلك حدث، وكأن قدرَ من يقتعد المكان أن لا تُدرِكَـه الأبصار، مثلما لم يُلتفَت، قبلي، إلى المتشرّد الذي صار جارًا لي وزميلاً لي في اللعنة، من مكاني رحتُ أنظُرُ إليه، فوجدتُهُ شيخًـا في السبعينات من العمر، ملابسه السوداء لم يسعها إخفاء كمّ القذارة ممّا حملت، اعتمرَ قبّعةً سوداء من صوف لُفَّـت حوّافُها، كقصبة مجوّفة، إلى منابت الشعر، ما كان يفوحُ منه، وإن كانَ عطِنًا ذا حموضة، غيرَ انّه بلغني برائحةِ عصارة ثمرِ المشمش ولم يينع بعد، أمالَ جسدهُ إلى الخلف وأنامَ رأسَه على صدرِه وراح يشخر، شاربُه الرماديّ الذي أخفى، لكثاثتِه، فمه المزموم، كانت شعراتُه منتصِبة يتناغمُ فيها الأسودُ مع الأبيض، وعليها، على تلك الشعرات، عزفت أنفاسِ الشيخ، بين الشخرة والشخرة، لحنًـا ذا صفير، من جيبِ قميصه، تحت معطفٍ غير مزرّر، أطلّت علبة سجائر مارلبورو حمراء كعلبة سجائري، لم يسعني أن أرى عينيه وقد انسدلت عليها الجفون بغيرِ قليل من الإصرار المداني للعنف، كأنّ بجفونِه تلك تصرُخُ بالألم وبالرغبة في الانتفاء، وكأنّها الموطِن حيثُ يغيبُ جزء جبل الثلج، وكأنّي بالشيخِ لم يرضَ بهذه المرحلةِ السطحية من النوم فراحت عيناهُ تنوبان عنه في سؤال أرضِ أخرى للرقاد...أرضٌ بعيدة...بعيدة وقريبة...
بعد أن يكون الشيخ قد استيقظ، أكونُ أنا في مكانٍ آخر، غادرتُ عربة الترام وتركتُه في نومه وفي قدرتِـه ولعنتِه ألاّ يراه النّاس وإن اجتنبوه...لم يرني وربّما لن يراني مرّة أخرى...هُنـا، الآن، في هذه اللحظة، من حياتي ومن حياتِه، أكتُب فيما لا أعرف ما يجري له، أفكّر فيه ولا يفعل، هنـا أتوقّف، برضا وعجزٍ معًـا عن أن أضيف شيئًـا...