الخميس، 25 فبراير 2016

أصائلُ باريـس


من بعيد، بدا كأنّ الأمرَ متعلّق بتجمهرٍ أو مشروع مسيرة، ثمّ، وأنـا أدنو من المكان خطوة فخطوة، راحت الرؤوس تتضّح لفتاتُها وقد خلت من كلّ جِـدّ والأحاديثُ تبينُ بجنوح نبراتها إلى الدعابة والمزاح، والحشد، اكتشفتُ، كان، في حقيقته، شِللٌ عديدة جمعت ما بينها الصدفة، أمّا الدخّان الذي تراقص صاعدًا من سجائر وأفواه بعضهم فقد طارَ معه آخرُ ذيل من ذيول فكرة المسيرة والتجمهر، أخذَ حشد المنتظرين لدورهم، أمام باب إحدى الحانات، شكلَ أفعوان انتفخ بطنه وغفا على مبعدة من مدخل جحره وقد خدّرته وجبة دسِمة فرغ منها لتوّه، بين رأسِ الأفعوان ومدخل الجحر تُركَ فراغ لمرور السابلة، وفراغٌ آخر أكبر فصَل ذيلَه عن متشرّد اتّخذ من عتبة أحد البيوت مقعدًا له، بين يديه، على الأرض، لمعت، في خطوط فضيّة وخضراء، أربع كانيطات بيرة مرصوفة الواحدة تكاتف الأخرى بلا اعوجاج أو فسحة، رأيتُ يمناه تمتدّ إلى الكانيطة الأولى على يمينه، رفَعَتها عاليًا فوق رأسِه وقد أماله للخلف، رسمَ السائلُ خطًّا أصفرَ ذا زبد وصل فوهة الكانيطة بجوف الفم المفتوح، لم يدم ذلك طويلا فقد شرق وفاضت من فمه رغوة بيضاء سالت على صدره ولحيته الشوكيّة المهمَلة، سعَل سعالاً دمعت عليه عيناه واحمرّتا، تقيّأ على ملابسه ما شرِبه لتوّه من بيرة، وخيّل إليّ أنّني لمحتُ، إضافةً إلى الدفقة التي ارتدّت من فمه، قوسيْن أرقّ نزّا من فتحتيْ أنفِه، ثمّ وهو يمسح كامل وجهه بكمّه كانت يده الأخرى تعود بالكانيطة إلى مكانها وقد تقعّرت واعوجّت وصارت قياسًا إلى شقيقاتها الثلاث مسخًا، كنتُ أتأمّله من وقفتي على الرصيف، تفصلُ بيننا طريقٌ يمضي فيها بعض الملتحقين بالأفعوان البشريّ وبعض المغادرين منه، في نظرتِه إلى ما حوله دهشة من يكتشِف العالم للمرّة الأولى، نظراتٌ تكاد تكون بلهاء، أغلبُ الظنّ أنّه يعاني من مرضٍ تنفّسي جعله يغرف الهواء من فمه دون أنفه، وكان من شأنِ المشقّة التي كابدها في ملء رئتيه أن ترغِمَه على هزّ رأسِه، أمامًا في كلّ زفرة وخلفًا مع كلّ شهقة، أضفى عليه فمُه الأفقم كقدامى الفايكينغ الإسكندنافيين وطريقة تنفّسِه وشفتاه المرسومتان كهلالٍ مكفوء شبهًا بوجه سمكةِ باجو ملكيّة سابحة خلف زجاج أكواريوم...
من غرفتي، قبل ذلك، وقد انتصف الليل، تناوبت على أذنيّ أصواتٌ قادمة من الشارع شبه المقفر الصامت، صوتُ سكّيرٍ يسبّ صديقه فيما الصديقُ يقهقه، خطوات امرأة بدت، من إيقاع عقبيْ حذائها على الرصيف، أنّها على عجلة أو خائفة أو، ربّما، قادها إلى ذلك، دون أن تدري، قلبٌ هفا وجسدٌ ظمأ واشتاق، سمعتُ، أيضًا، أصواتَ سيارات تباعد وقت مرور إحداها عن الأخرى، بدا هديرُ الواحدة منها، وهي تقترِب ثمّ وهي تبتعد، أشبَه بما نسمعه لحظةَ نُخرطِم شفاهَنا بِنيّة التصفير، وقد نسينا ترطيبها، فيخرجُ الهواءُ دون أن ندرِك ما انتويناه، أمّا في المسافة بين السيّارة وهي تقترب وبينها وهي تبتعِد، في تلك القطعة التي أعجزُ من أن أحدّدها قياسًا، يُداخِلُ ذلك الصفير الصامت صوتُ غوصِ العجلات في ماء المطر، تمامًا مثلما تخرُحُ مع صفيرنا الصامت، إذا امتدّ وطال، أسلاكٌ وندفٌ من البصاق، "نعم نعم" قلتُ في نفسي "حتّى الأصوات يمكنها أن تتبلّل"، يطالُ الأصواتَ البلل وتجرح الأصواتُ القليلة الصمتَ وإلاّ ما أمكننا أن نعرِف الصمتَ ولا أن ندرِكَ عمقَه، وبسبب ذلك، كما أعتقِد، تصنعُ آذانُنا ذلك الصرير الخياليّ في الأماكن مطبقة الصمت...
أغراني الصفير الصامت، الصوت المبلّل، شتائم السكّير وطقطقة المرأة المتلهّفة، بأن أرتديّ معطفى وأقتحم الشارع لا ألوي على شيء، بلغ الجوّ، خارجًا، من الدفء بأنّ بدت معه كلّ تلك التحصينات التي غلّفتُ بها جسدي ورقبتي مجّانيّة، بل وقد تسمو لأن تكون، في نظرِ أحد ممّن التقيتهم، ضربًا من الفوبيا، في الشارِع وعلى ضوء المصابيح تهادت قُطيرات مطرٍ رذاذيّ، ورسمَت حول كلّ مصباح هالةً ضبابيّة واسعة حفّتها هالةٌ أصغر بألوان قوس قزح، مررتُ في سيري الذي امتدّ لأكثر من ساعتيْن على شوارِع منها ما كان مضاءً ومنها الخلفيّة بعتمتها، تلوّنت نوافذ المنازل الساهرة بألوان الستائر أحمرها وورديّها وأزرقها، قطعتُ ساحات وميادين ظهر على تماثيلها الوحدة والحزن، لمعت على أوراق الشجر قطراتٌ ذات أشعة كأنها شموس أو قطعٌ من النجوم سقطت من السماء، التقيتُ بالسكارى وهم يعودون إلى منازلهم أو في طريقهم لأن يغيّروا الحانة وقد ملّوا المكان حيثُ كانوا يشربون، وفي مرّتين تفصل بينهما لحظات قلائل، في زُقاق مظلم، وقعت قدمي على كتلتيْن طريّتين أدركتُ أنهما براز كلاب، من حظّي أنّ براز الكلاب هنا، لطبيعة ما يأكلونه، لا رائحة كريهة له، مضيتُ بعينين تفتّشان عن بركة ماء، ولمّا تعذّر عليّ ذلك لذتُ بعودٍ عثرتُ عليه في وقفتي قبالة المتشرّد شبيه سمكة الباجو، وملتُ أسلتُ به ما بقي عالقًا بجوانب الحذاء من براز، وعندما انتهيت من تنظيف الحذاء كانت سمكة الباجو قد قضت على اثنين من كانيتات البيرة وأعادتهما إلى مكانيهما الأوّل وقد تقلّصتا وتشوّه قوامهما...
لدى عودتي، مررتُ مرّة أخرى بالأفعوان، أو ماكان له شكل أفعوان، فقد صار إلى أشلاء وتعدّدت الفُسح بين أجزاء جثّتِه، أمكنَ شللاً الدخول إلى الحانة المكتظّة وقد غادرها بعض من كان فيها، وربّما أضنى الإنتظار شِللًا فراحت تبحثُ لها عن حانة ثانية، سرتُ نحو ربع ساعة، ثمّ انعطفتُ إلى شارع، لم أعبره أثناء مجيئي، رغم توفّره على أعمدة إنارة، إلاّ أنّ أشجار الجمّيز جعلته ذا ظلمةٍ مرقّطة بما سمحت به الأوراق والأغصان من ضوء، كان، في الواقع، شارعًا فرعيًا قصيرًا يربط بين شارعين رئيسيين، من أحد جذوع الجمّيز الضخمة، وأنا أحاذيها، انطلق صوتٌ "اسسسسسسسسست" وفي نفس اللحظة تقريبًا، وانا أستدير مشدودًا إلى مصدر الصوت، التقط أنفي رائحة عطر نسويّ، كانت واقفة تلتصقُ بجذع الشجرة حتّى أنّك تحسبها امتدادًا له، ومثل أرضِ الشارع بدت، على لطخات الضوء المتسلّل من بين أغصان الشجر، بشرةٌ سوداء، لمعان، جزءٌ من تنّورة جلدية سأغمطها حقّها إن أنا وصفتها بالقِصر، تكلّم الشبح فيما أنا أواصلُ، صامتًا، تأمّله "أترغبُ في ممارسةِ بعض الحبّ ؟..." كان الصوتُ لا يختلِف في تهذّبِه ودبلوماسيتِه وأنثويتِه عن ما سبق وصادفته لدى موظّفات الإدارات وبائعات المتاجر، بدأت، مع الوقت واعتياد عيناي العتمة، ملامح هذه المومس تتضّح، زنجيّة طويلة القامة هيفاء، بعينين باسمتين ذات رموش صناعية، بصدرٍ ثلاثة أرباعه نهدان، ساقين لامعتان ربِلتان، وعلى ضوء شاشة هاتفي، وقد وجّهته إلى وجهِها، مثل زبون يكفل له القانون حقّ الحرص على الجودة، ظهر على خدّها ندبٌ، ضربة سكّين، تبدو الحادثة، من خلال النقاط حيثُ آثار الخياطة، ليست بعيدة العهد، أدهشني انصياعها، عدم تنازلها عن ابتسامتها، لم يبدُ عليها الإستياء لحظة وجّهتُ إليها ضوء هاتفي، وبعد أنِ اعتذرت لها بديبلوماسيّة كديبلوماسيتِها "لم تمضِ ساعة منذ كنتُ مع إحداهنّ، لو كنتُ أعلم بوجودك هنا ما قبلتُ بها، نلتقي" اتّسعت ابتسامتها وتمنّت لي، بصوت خرجت معه أنفاس زكيّة، بقيّة ليلة سعيدة، لم أكُن أدري أنّ ما سأمر به من أشجار تختفي خلف أغلبها أخريات، كلهنّ زنجيّات، صغيرات السنّ، تفوح منهنّ عطور جذّابة، يعرضن سلعتهنّ بأدب وبلسانٍ لا يختلِف عن لسان عليّة القوم، وكلهنّ تمنينّ لي وقتا ممتعا، وليلة هنيئة...
وأنا في منتصف طريق العودة انتبهتُ إلى أنّ السمّاء أمسكت رذاذاها، اختفت الهالات القزحيّة من حول المصابيح، ظلّ صمتُ الشوارِع على حالِه، جفّ الطريق فاختفت تلك القطعة الصوتية المبلّلة، وانتهى صوت السيارات إلى صفيرٍ صامت متّصل، تجاوزتُ متشرّدًا سكرانًا كان يتحدّث، بنبرةٍ متوعّدة، إلى كلبِه الذي أطرقَ ببصرِه وسكن، كأنّه قدّر ما اقترفه من خطأ واعترف، بالقربِ من أحدِ العمارات فعمت الجوّ رائحةُ شراب الزنجبيل، نظرتُ إلى أعلى، شقّة واحدة فقط مضاءة، لا أدري لمَ رسم لي خيالي صورةً لصاحب هذه الشقّة، عجوزٌ اجتاز الثمانين، جنديّ قديم في ثكنةٍ بنواحي بشّار، كان حلاّق الثكنة، تأتأة لسانه لم تشفع له في الإعفاء من الخدمة العسكريّة، عاد من الجزائر قبل الإستقلال بعامين، تزوّج بصديقته التي انتظرته، لدى عودتِه، في ميناء طولون، ومنذ عودتِه، أمكَن الزمن أن يُصرِفه عن كلّ ما صحِبه من الجزائر إلاّ عن شراب الزنجبيل...
تمدّدتُ على السرير بعد أن تخفّفتُ من معطفي، شعرتُ براحة لذيذة بدت لي أنّها ستفارِقني لو غيّرت ملابسي، نمتُ كذلك بحذائي وبسروال الجينر والقميص الصوفيّ، وآخر ما مرّ على خاطري قبل النوم أمنيـة...كوب زنجبيل...

الجمعة، 19 فبراير 2016

تِـ بـ غُ الـ نَّـ مـلـة

حبيبتـي
سمعتُ لهـا، ولا زلتُ، كلّما هممتُ بها، وبيَّ همّت، فرقعات كالوشوشة، رأيتُ فيهـا، في ثوبها الشفّاف لحظةَ ينزاح احتراقًا، بياضًا يتفضّض، بياضَ عباءات الحجيج إذ يدْفعُه، بيدٍ حانيّة، رماديّ معاطِفِ الشيوعيين، بينهما رأيتُ سوادًا ذا هالةٍ بلون البنّ، حلقةً لا شيوعيّة ولا مؤمنـة، حلقةً تردّ، في زحفِها، بياض المؤمنين عن بياضِه، يترمّد الكلّ ويسّاقطُ مثلَ هشيم يتفتّت، خلوتي بها، بحبيبتي، دفعتُ ودفَعَت، لقاءها، شهداءً وشهداء...
التقيتها فأبْكَرتُ، في ذلك العمر الذي لم يكُن يقزّزُنـا أن نرى في حواف العيون قذًى فستقيّ اللون، ولا يعيب الواحدُ منّا إن غزَى رأسَه صئبانٌ يشحبُ عليه سوادُ الشعر، عرفتها أيّامَ كانت لها رائحةُ اللوز ومذاقُ لحم الجديان، حافيًا ألفتني ومهجورةً لمحتها، ورُحنا، مذّاك، نكتُبُ نصّنـا، سِفرَنا بصفحاته السوداء وتلك التي كتِبت بياضًا، خاصمتُها مرّات لستُ أعرِفُ أظالمًا كنتُ أم دافعًا لظُلم، هجرتها وعدت، وفي كلّ عودة كانت حبيبتي كانت فرقعاتها كانت جموعُ الشهداء مؤمنوهم وشيوعيّوهم، كانت جمرتُهـا هي هي فصّ رمّان من أرضِ الجنّ، كانت بعطرِهـا وقد التصقَ بملابسي والأنفاس ورائحة العرَق...
وقفتي، أصيل يوم ديسمبري، 2006، شارِع العربي بن مهيدي، وهران، كانت قد مضت خمس سنوات من هجراني حبيبتي، تعلو باب إحدى الأكشاش لافتة، قرأتُهـا، تهجيّتها، عقدتُ ما بين حاجبيّ، لستُ أستطيعُ، الآن، تذكّر المشاهد التي عبرت ذهني لحظتها، لكنّها كانت حاضرة، بوعد، بعهد، بوعيد، باشتياق وحنين، اقتربتُ من اللافتة المستطيلة الصفراء يحوطها شريط أحمر، رفعتُ رأسي إليها وأنا أعتِب الكشك دخولاً، وفي عتبي، وأنا أخرج، كنتُ قد بدأتُ، وإيّاها، طقوس الحبّ، طقوس العشق، التفتّ إلى اللافتة مرّةً أخرى وتهجّيتُ "تِـ بـ غُ الـ نَّـ مـلـة"...نعم حبيبتي هكذا، تحملُ روحُها كلاّبتين...
أطبقتُ، ليلـةَ أمـس، السِّفـرَ...أطبقتُـه...وكفـى...

الاثنين، 15 فبراير 2016

أصائـلُ باريـس


طالعتني السماءُ، هذا الصباح، وقد ضعُفَت سحابتها، أخيرًا، وطالَ كثيرُ فسطاطِها الرماديِّ الوهَنُ، وقد أجادت السحابةُ، والحقّ يُقال، باتّصال ما مضى من أيّام، لعبةَ الحُضن القاسي الممعن في برودتِه، ومثلَ مصارِعٍ بارع يُرخي قبضتَه على خصمِه، في لحظةٍ بعينِها، لتغدو مسكتُه القادمة أكثر إحكامًا، كانت تتغافلُ عن الشمسِ بين الحين والحين، فيطلّ الكوكبُ، على عظمتِه، خجِلاً كالمجلّل بالعار، كَـ، بتشبيهٍ يبدو لي أبلغًا، كومبارسٍ على خشبـةٍ عرضُها السماء والأرض، لكنّ الكومبارس غدا هذا الصباح محورَ الكون، وبعد أن طالَ أمدُ أسرِه انتفضَ وصارَ في حُكمِ الجلاّد، أمّا أنـا، فقد وجدتُ في نفسي، هذا الصباح، سعادةً لا أستطيعُ الجزمَ بأحدِ منبعيْها، الدفء المنتشِر في الجسد والجوّ أم انتصارُ انتصاري لشمسٍ كانت، إلى الأمس، في عداد الضعفاء...أم أنّ المنبعَ واحد وما بدا لي لا يعدو الرّافديْـن...
من وقفتي في العربة، عربةُ الترام المكتظّة الزاحفة، نظرتُ الرؤوس فإذا بها تهتزّ كبنادلَ، على كرويّتها جميعها، تمايزَت خطوط استداراتها وتباينَت ألوانُ ما غلّفتها من شعورٍ ومن أوشحةٍ وقلانس، راحت الوجوه تتلوّن بحمرةٍ بهيجة، فيما كانت الأفواهُ تتلافى إلاّ ما يُضحِك من حديث، أو أنّ الآذان هي التي كانت تتواطأ إذ ردّت كلَّ حديثٍ، مهما كانَ عاديًّا، إلى مدعاة للإبتسام، ثُمّ إنّ تلك الوجوه، شأنُها في المآدِبِ والأعياد، وكأنّي بها انفصَلت عن ما كانت تكابِدُه الأجساد، في الأسفل، من زنق وتململ، فأحدًا ممّن صادفتُهم، من الوقوف مثلي، لم أرى ملامحه وقد تشوّهت وتشكّلت سيما الضّجَر...
توالت المحطّات، وفي كلّ منها نزل من نزل وصعد من صعد، وفي كلّ محطّةُ كنتُ، قبل أن يصعد الصاعدون، أغيّر مكان وقوفي إلى حيثُ يظهرَ لي أنّه المكانُ الأريَح، ولم أكُن أعلم، حتى ذلك الحين، أنّ ثلاثة من المقاعد كانت، على مقربةٍ منّي، شاغرة، هي أربعةُ مقاعد، أو بتعبير أدقّ مقعدان يتقابلان ومقعديْن، احتلّ إحداها متشرّدٌ لم يبالِ، ربّما لاعتياده الأمر، بامتناع الواقفين من التجّرؤ على مكاتفته أو الجلوس قبالَتَه، لم أتردّد ولو للحظة، وأنا ألمحُه تحوطُهُ الأماكن الثلاثة، أن أعزمَ على احتلال واحدٍ منها، وكان عليّ، قبل أن يصير عزمي نافذًا، أن أربت، في لطفٍ، على أكثر من كتِف، أبتسِم، على سبيل الشكر المسبق، لوجهين أو ثلاثة، أتمسّح بظهري، بتمهّل قصدتُه، على صدريْن سرت إليّ منهما حرارةُ ما نفرت فيهما من نهود، كان على أنفي أن يتشمّم، بلهفةِ نعمةٍ لا تدوم، ضروبًا ساحرةً من العطور، وضروبًا أخرى سطَعتني على كرهٍ منّي مخلّفةً، فيَ، شعورًا كالغيظ...
كنتُ على تأهّب لأن ترمقني الأعيُن بنظراتٍ أدناها متعجّبة لحظةَ جلستُ قبالة المتشرّد، لكن لا شيء من ذلك حدث، وكأن قدرَ من يقتعد المكان أن لا تُدرِكَـه الأبصار، مثلما لم يُلتفَت، قبلي، إلى المتشرّد الذي صار جارًا لي وزميلاً لي في اللعنة، من مكاني رحتُ أنظُرُ إليه، فوجدتُهُ شيخًـا في السبعينات من العمر، ملابسه السوداء لم يسعها إخفاء كمّ القذارة ممّا حملت، اعتمرَ قبّعةً سوداء من صوف لُفَّـت حوّافُها، كقصبة مجوّفة، إلى منابت الشعر، ما كان يفوحُ منه، وإن كانَ عطِنًا ذا حموضة، غيرَ انّه بلغني برائحةِ عصارة ثمرِ المشمش ولم يينع بعد، أمالَ جسدهُ إلى الخلف وأنامَ رأسَه على صدرِه وراح يشخر، شاربُه الرماديّ الذي أخفى، لكثاثتِه، فمه المزموم، كانت شعراتُه منتصِبة يتناغمُ فيها الأسودُ مع الأبيض، وعليها، على تلك الشعرات، عزفت أنفاسِ الشيخ، بين الشخرة والشخرة، لحنًـا ذا صفير، من جيبِ قميصه، تحت معطفٍ غير مزرّر، أطلّت علبة سجائر مارلبورو حمراء كعلبة سجائري، لم يسعني أن أرى عينيه وقد انسدلت عليها الجفون بغيرِ قليل من الإصرار المداني للعنف، كأنّ بجفونِه تلك تصرُخُ بالألم وبالرغبة في الانتفاء، وكأنّها الموطِن حيثُ يغيبُ جزء جبل الثلج، وكأنّي بالشيخِ لم يرضَ بهذه المرحلةِ السطحية من النوم فراحت عيناهُ تنوبان عنه في سؤال أرضِ أخرى للرقاد...أرضٌ بعيدة...بعيدة وقريبة...
بعد أن يكون الشيخ قد استيقظ، أكونُ أنا في مكانٍ آخر، غادرتُ عربة الترام وتركتُه في نومه وفي قدرتِـه ولعنتِه ألاّ يراه النّاس وإن اجتنبوه...لم يرني وربّما لن يراني مرّة أخرى...هُنـا، الآن، في هذه اللحظة، من حياتي ومن حياتِه، أكتُب فيما لا أعرف ما يجري له، أفكّر فيه ولا يفعل، هنـا أتوقّف، برضا وعجزٍ معًـا عن أن أضيف شيئًـا...

السبت، 13 فبراير 2016

أصائـلُ باريـس


لو كان ما سأنثره، هنا، يعدو اليوميات إلى القصّـةِ القصيرة لراهنتُ، بغير قليل من الثقة، على "دافقَة الباغيت*" كعنـوان بليغ لها، أتملاّهُ إذ هـو يقزحُ بالألوان، نكهتهُ متبّلـة وموسيقاه ذات وقع على الأذن كما الأناغيم، أنظرُه وقد استوى كوكتيلاً فيه من الشاعرية بقدر ما فيه من مسحات النوستالجيا، من العجائبيّ ومن المجازيّ والأسطوريّ كلّ أخذ لـه نصيبًـا وإلى العنوان أعطى...
ككلّ مسـاء، قطعتُ المائة متر التي تفصلُ، أو بالأحرى تربِط البيت بالمخبزة، وهي رصيفٌ قديم التبليط، قوالبه المستطيلة التي رصفتها، بمهارة، يدٌ فنّانـة انقسمت ألوانها بين القانيّ وما هو بلون النبيذ، وسأقرّ، لم تُسعِفني، إذّاك، معارفي، وأنا الطالب السابق شعبة الهندسة المدنية، في القطع بما، مِن اللونين، لهُ الأسبقية، لكنّ المرجّح، والطبيعة، لا أعرفُ لماذا، يحلو لها تدكينَ الأشياء، أنّ القوالِب الحجرية كانت، كلّها، في البدء، بوردوليّة الحُمـرة، ومع الزمن أعملَت الطبيعةُ الريشةَ والإزميل، على ما تشاء، من حجرٍ، وعفَت عن ما تشاء، بالطّبـع ثمّـةَ ما ستتفلسف به العلوم في هذا الموضوع، وسيكون من شأنِ رأسي، فيما أسمعُ تلك المعادلات الكيميائية وتلك العناصر يحمل أغلبها تسميات على أوزان الفعلون والتفعولين والتفعيلان، أن يُصابَ بالصداع، كاملِهِ ونصفيّه، وهي، لستُ آتي جديدًا، تفسيراتٌ صحيحة كلّ الصحّة، أمّا أن يكونَ اسم المفسِّرات العلوم الدقيقة فتلكَ هرطقة وسقط كلام، لا أذكُرُ عالمًا رأيتُـه يخوضُ في اكتشاف جديد إلاّ وومضت في تقاسيم وجهه، وفي إيماءاته، وفي نبرتِـه تردّدات واهتزازات وأطيافَ توشـي بعدم ثقتِـه فيما يخوضُ تلك الثقـة المطلقـة، كان الأَوْلى أن تقصر تسميةُ تلك العلوم بالعلوم وكفى، أمّا الدقّـة فلا معادٍلَ لها سوى الموات، الدقيقُ من الأشياء يستدعي بلوغ أطراف الجذور، يرسو في الضفاف، وهذا، للمفارقة، يُناقِضُ بسملـةَ علومٍ لا نهايات لها ولا ضفاف...أعتقِد أنّ العلوم لا يمكنها أن تكونَ بذلك العداء للأديان وإن ناكفت هذه تلك وقزّمت تلك هذه، فهي، أيّ العلوم، وإن أنكرت زمرة من العلميين، لا تخلو من إيمانٍ بماورائيّـات تُغري ببلوغ مراتعها، وفي اللُهـاثِ السُرمديّ إليها، بالضبط، تكمُـنُ منجزات الإنسانيّـة...
عند عتبةِ المخبزة زجاجيّة الواجهة انتهت مسيرة المائة متر، وقبل ذلك بخطوات، في لحظة بالغة القصر، سطعت شمسُ المغيب، ثمّ اختفت، تلألت، على نورِها رمّانيّ اللون، خضرةُ طحالِبٍ طابَ لها أن تزدهر في البقع غير المطروقة من الرصيف، وفي جذوع الشجر ومنابت الجدران، شعّ الفاتح منها حتّى تحسبُ أنّه بسبيلِه لأن يضيء، وظلّ الغامقُ على غموقه وإن بدا لي أنّه على شيء من اللين، أو ربّما الضُّعـف، أمام الضوء، كـان على استعداد، لو طال بالشمس المقام، أن يتنازَل، شيئًا فشيئًا، على حلكتِـه...
كنتُ، وأنا أبلغ عتبة المخبزة التي تلوّنت إطارات واجهتها بالأحمر، مملوءً بزهـوٍ وثقـةٍ تداني الخيلاء، فالحذاء الجديد الذي انتعلته كان لسوادِه، وأنا أسير على الرصيف، لمعان، ولجلدِهِ صوتٌ بين الأزيز والصرير، وللدفء الذي أشاعه في قدميّ لذّة، ثمّ إنّني، وأنا أطرقُ به تلك الحجارة الصلدة، القانيّ منها وما هو بلون النبيذ، تبيّنتُ الصوتَ فإذا به صوتان، أوّلهما ما بلغني من قدمي اليسرى، وكان حادًّا، على درجة من الصرامة، فيما بدا الآخرُ، طرقُ القدم اليمنى، كرجع صدى لليسرى، رخوًا، إن صحّ وصفُ الأصوات بالرخاوة، ممطّطًـا، كانت القدمُ اليسرى، رغمَ تماثُلِ فردتيْ الحذاء، تضربُ في الأرضِ بثقـة وعزم، وكانت هيَ القائدة ومايسترو المعزوفة، معزوفة الحذاء، إلاّ أنّ هذا التباين بين الطقطقتيْن هو ما جعلني، طوال الطريق إلى المخبزة، أستمتِع بقطعة من الموسيقى لم تكُن بذلك الجمال لو تساوت الطرقتان...
دفعتُ الباب فرنّت، فوق رأسي، أعوادٌ مربوطة إلى السطح بسلك لا يكادُ يرى لرفاعته، كانت في حجم أقلام الرصاص، أمّا ألوانها الزاهية الراقصة ورنينها، فيما كلّها ينطحُ الكلّ، فقد عزفَت، هي الأخرى، ورسمت ما فاق قدرات حذائي والطحالبِ وقوالب الرصيف الفنيّـة، وصنعت، فوق ذلك، بهجةً تنمّ بصلة غامضة إلى عوالم الطفولة، يعوزُني التخمين في الصور التي كانت ستوحي بها هذه الأعواد الرنّانة إلى العجوزين، زوج وزجته، اللذيْن تجاوزتهما في طريقي إلى هنا، وكان لهمَـا، قبل أن أفعل، اليدَ العليا على القدم اليسرى فإذا بها تخفّف من حدّة المعزوفة وتضبطُ إيقاع السير بحسب مشيتِهما ذات التوقّفات العديدة، انشغلتُ بهما للحظات، تلفّع العجوز بمعطفٍ صوفيّ أسود، اعتمر برنيطة بنيّة، فيما جرجرت زوجُه شبشبًا قطنيًا بلون الورد، غطّت رأسها بإيشارب رماديّ ولفّت أطرافه، زيادة في الإحتراز، بعنقها، رأيتها تتوقّف، فتوقّفتُ بدوري، استدارت بنظّارة طبيّة ثخينة الزجاج إلى زوجها كمن تتحرّى صدقَ ما قاله، أمّا هو فقد كان يردّ عليها من فوق كتفه، دون أن يوقِفَ خطواته الوئيدة، بابتسامةٍ ووجهٍ بالغ الطمأنينة، تلتحق به وتحدّثه، من جديد، بصوتٍ ضعيف لم يسعني تبيّن كلماته فيردّ عليها، تتوقّف ناظرةً النظرة عينها، يستمرّ هو في سيره ويطلّ عليها من فوق كتفه على نحوٍ صيّر الزوجةَ، في نظري، لا يعيبها، أمام ابتسامتِه تلك، لو تصابت كعذراء، أربعُ همسات بأربع توقّفات ناظرة بأربع ابتسامات وضيئة كانت علاقتي بالعجوزين قبل أن أجدَ في تحيّتهما أفضل طريقة لبقة لتجاوزهما، وأسِفتُ، من وقفتي داخل المخبزة، عندما لمحتهما، عبر الزجاج، بنفس المشية، يمضيان في طريقهما دون أن يدلفا المخبزة، دون أن يمنحاني متعة تملّي وجهيهما لحظةَ ترنّ فوق رأسيهما تلك الأعواد الملوّنـة...
إنتظرتُ دوري، وقد سبقني كهلٌ سمعته يصفُ إلى البائعة نوعَ كعكعة عيد ميلاد طفلة، وربّما امرأة بالغة، تدعى إيميلي، وهو نفس إسم الطفلة إيميلي، ابنة بائع التبغ الذي عرّجتُ عليه قبيل مصادفتي للمُسنّين، سألتُ والدَها لحظةَ وضعَ أمامي علبة السجائر، فزمّ شفتيه الرفيعتين وهزّ رأسَه كالمتألّم وقال "إنّها مريضة"، لم يكُن من شأن الأسى المرتسَم على وجه والدها ليفاجئني، حتّى عندما علمت بأنّ مرضها بسيطٌ لا يعدو الزكام، فعلاقته بإيميلي وعلاقتها به غايةٌ في التناغُم، تتعدّى تلك العلاقة بين أبٍ وطفلةٍ في الخامسة من عمرها، أصادِفها في كلّ مرة أذهب إلى هناك، إلاّ فيما ندر، وفي كل مرّة أُعجَبُ بذلك المستوى الذي يحادِثها به، وبردودهـا الذكيّة التي تتجاوزُ عمرها بمراحل، كان جوّ متجر التبغِ اليوم على درجة من الصمت الكئيب، كلماتُ البائع، الذي لا أعرف بعد اسمه، وعلى اختصارِها راح يجهدُ لدفعها دفعًا كأنّـهُ هو المريض، احترمتُ حالته وودّعته، متنيًّا لإيميلي الشفاء، حتّى قبل أن أخفي علبة السجائر في جيبي...
فرغ، أخيرًا، الكهلُ من إملاء مواصفات ومكوّنات كعكة عيد ميلاد إيميلي، وفرغت، معه، البائعـة من التدوين قبل أن تصفق غلاف دفترها الصغير بنفسجيّ اللون، وهي تنظر بحزم إلى الكهل، وتضعُ القلم عليه فيتكّ، بما معناه "تمّ الأمـر"، قبل أن تنطلق عضلاتُ وجهِها بابتسامةٍ مودّعـة لا يملك الكهل، معها، إلاّ أن يذهب مطمئنًـا راضيًا غايـة الرضا...وجاء دوري وقد أصابتني، مسبقًا، وأصَبْتُ عدوى من طمأنينة الكهل...
يسوّر الشارع ،الذي قطعته إلى بائعة الخبز، بنوعٍ من أشجار السنديان، جذوعها تمتلئ بأشكال كالخرائط، يابستها ذات لون فضيّ باهت فيما بحارٌ تلك الخرائط، في مثالنا، فضيّتها أكثرُ لمعانًا، أغصانها، عدا الرئيسيّ الذي يستمرّ به الجذع، رفيعة، إبريّـه تتجّـه كلّها إلى الأعلى، تعرّت، والوقت شتاء، من أوراقها التي لا تختلِف، في شكلها، عن ورقة القيقب التي تتوسّط راية كنـدا، أمّا ثمرها الذي يبقى عالقا بأمّه لسنوات فكرويّ في حجم حبّة البلوط، تملأ قشرته الغضّة أشواك، رأيتها، اليوم، كأنني أنظرها للمرّة الأولى، فعريُ الأغصان، بخلفية من سماء تمتلئ بغيوم تتدرّج ألونها من الأبيض إلى الرماديّ الضارب إلى السواد، لا تقلّ، روعةً، عنها وهي ترتدي سندُسها في الربيع، كانت، وهي تبدو كالجطب الخالي من أيّ حياة، ترسمُ على السماء خطوطًا سوداء يفعلُ فعلَ خطوط اللغة على الصفائح البيضاء...
مع الوقت، تأتلِف الوجوه وتنزاحُ تلك الغربة فاسحةً المكان للارتياح والطمأنينة لتحتلّ المكان، وهكذا انتهى الأمرُ بي وببائعة الخبز إلى أن اعتاد كلّ منّا ملامِح الثاني، أشدّ ما شدّني إلى هذه المرأة الأربعينية، ليس أناقةِ ملبسِها، وليس سراويلها اللاصقة التي ما كانت لتشفّ عن بياض الماتحت لولا لونها الأسود، وليس مريلتها الوردية التي تغريني، وربّما أغرت غيري، عقدة رباطها، على شكل زهرة بتويّجات ثلاث، أسفل ظهرها، وهي تستدير لتلقط الخبز، بأن أمدّ يدي لأحلّها، وليس الذي شدّني ذا علاقة بروائح المخبزة والتي امتزج فيها عطر الحلويّات بعبق الخبز الخارج لتوّه من الفرن برائحةٍ تشبِه رائحةَ طحين الشعير يتدفّق من فوهة الرحى بعطر خاصّ لا تضعُ هذه المرأة غيره، وليسَ ما شدّني ألوانُ الخبز بأنواعه الذي بلغ تناغمها مع لون الرفوف، حيثُ تقفُ الأرغفة، درجةً تشكّ في أنّها رفوفٌ من خبز ناضج لا من خشب، ما شدّني قبل كلّ هذا وحتى أكثر من الأعواد الملوّنة ونغمها الطريقة الإحتفاية التي تكرّر بها طلباتي، بابتسامتها التي يستدير عليها وجهها ذي اللون الشبيه بلون رغيف نصفِ ناضجٍ من دقيق الذرة، تمنيتُ لو ملكتُ تسجيل احتفاليتها وموسيقى صوتها لحظةَ تكرّر، من خلفي، كلمة Baguette، كانت باؤها رقيقة في حين أن بائي، وأنا أنطق الكلمة، كانت مفخّمة شأن اللسان الفرنسيّ، وباؤها غيضٌ من فيض، فالباء كانت كومًا والباقي كومًا آخر تابعًا لها، كانت الكلمة تسيل من فمها، بل كانت ذاتَ دفقٍ...ذاتَ سحر...
ــــــــ
*- نوعٌ من الخبز الفرنسيّ

الخميس، 11 فبراير 2016

ألوان

مغرمٌ، مُذ كنت، بلعبـةِ الألـوان حدّ الهوَس، تتبّعتُهـا في لوحات الرسّاميـن فانتهيتُ إلى مللِهـا، في النصوص والقصائـد فبدا لي كثيرُهـا مبتذلاً حدّ السذاجـة، أمّا في حقولِ وبساتيـن المتّيجـة فلم تشـأ، هذه الألوان، بكلّ أطيافها والدفء والصقيع، بتناغمها مرّة ونشازها أخرى على عباءات الثعابين والحرابيّ، بطون الضفادع وحلَمات الأناثي من الخنازير، توت الأرض في التربة الرملية، لِحاء الصفصاف والزرابي الطحلبيّة تفترِشُ البِـرَك الآسِنـة، قطعُ الفحم تلتصقُ بأرغفةٍ خارجـةٍ لتوّهـا من الفرن الطينيّ، شعرات سوداء تطعنُ، على أديم الحليب، فقاعات تأبى أن تنفجِر، كلّ هذه المشاهد اللونية أبت إلاّ ان تظلّ على طفولتِهـا وأنشودة "ما أجملَ الجوّ هنـا"، ثمّ، وسنـة، من سنيّ عمري، تقتفي أثرَ الأخـرى، وجدتُ نفسي، ولأسباب بالغة الغموض، أضيّق زاويـةِ اللعبـة وأحاصِرُهـا في استدارات الوجوه، يملؤني شعورٌ كالظّفَـر. هُنـا، في الوجوه، تململت الألوان وصارت ذات حيـاةٍ، ذاتُ شطحـاتٍ ورعشـة، أعجِبـتُ بغنجها، غنجُ جاريـةٍ خلفَ قضبان لا مرأية، لمستُ، هناك في الوجوه، أحمرًا، أصفرًا، أسودًا، أبيضًا، ازرقًا، حمرًا وحمراوات، صفرًا وصفراوات، سودًا وسوداوات، بيضًا وبيضاوات، زرقًا وزرقاوات، عيناي، قبل هذا، كانت ألوانها لا تُخاتِل، وإن خاتَلَت فبطريقة مفضوحـة، خلافَ ألوان الوجوه، تخاتِل وتكسَب، تنفضِح إلاّ لحظة تشاء ذلك، الأحمرُ من الوجوهِ مِنـهـا السعيـد، الخائف، المنتشي، السقيم، الديّوث، الحسود، السكران، والأزرقُ منها ما هو ميّت، ومن في لحظـةِ مخاض، الزرقةُ أيضًا، وإن أتَت ومضيـة، تمرّ كسحابةِ على وجهيّن يباشِران آخرَ مراحِلَ المضاجعة، الأزرق يكسو أيضًا، بسرعة الضوء، وجهَ من فاجأه السعيد من الأخبار، أمّا الألوان ممّا لم أذكُـر فالصحفُ تضيقُ عن حملِهـا والأقلام تجفّ ولمّا تسعَـد بتعداد شطحاتِهـا، هكذا هي الألوان في الوجوه وهكذا بدت لي...

الجمعة، 5 فبراير 2016

أصائـلُ باريـس


كانوا تسعة عشر عشرونُهُـم أنـا، الثاني من حيث السِنّ، تاسِعُ الجنوبيين، خامسُ الرجال، رابعُ الشرقيين والأفريقي الوحيد العربيّ الأوحَد، تضمُّنـا، في أحد الأقسام الجامعيّة، حيطانٌ أربعة بيضاء تلمعُ فيها نقاطٌ فضيّة، شفّت النوافذ، يسارَنا، على أسطحٍ نفثت أغلب المداخن النابتة فيها أفعوانات بخارية قطنيّة اللون، بدت المدينة من هذا العلوّ غيرَها ما كنتُ أقطع منها الشوارع والميادين منذ لحظات، كالحةً حزينة لا أثر للحياة فيها، ومن هناك، في الأفق، وقفَت، مخترِقةً سماء الأصيل الرماديّة، أربع رافعات حديديّة بروَزَت المشهد وختمَتـهُ بالكآبة وبالبرود...
أرجوكُم، هكذا بدأت المدرّسةُ حديثَها، نادوني ماري دون ألقاب، بلغتُ لتوّي ستًّا وعشرين سنـة، أستاذة بدرجة ماستر في الأدب واللغة الفرنسييْن، وعلى النولِ نفسِه تعاقبنا، نحنُ الطلبة، نسج تقديمِ أنفسِنا مع تغييرِ طفيف على ما نسجته ماري، حيّدنا "أرجوكُم" وحلَلَنا محلّها جنسيّةَ كلّ منّا، تكلّمت الآسيويات الثلاث، الصينيّتان والفيتناميّة، أوّلاً، بكلمات فرنسيةٍ ولكنة آسيوية لا زالت تعقِل ألسِنتهنّ، ولا يظهر أنّها ستتنازل في مقبِل الأيّام، كُنّ، كما بدون لي، يجاهدنَ لإطلاق ألسِنتهن فيما الألسنة أصابها مسّ من حِران، بل وتقهقرت محبّذة الإلتصاق بسقف الفم، كنّ ينطقن الكلمات، حتّى قليلة الحروف منها، مجزّآت على ثلاث وأربع واثنيْن، انتهى كلّ مقطع، وصُفِّد، مثل السجين، بحرف وسط بين الكاف والقاف، شعرتُ بمعاناتهنّ، بل وجدتُني، في لحظة من اللحظات، أشفِقُ عليهنّ وأتعاطف، ثمّ في لحظةِ تالية غمرتُهنّ، لتلك الشجاعة، بنظرة إعجابٍ وإكبار، كيفَ لا وقد صِرنَ بكليتهنّ طرفًا في معركة تدورُ في عمق الأفواه الثلاثة، كانت معركةً حقيقة لا يبعد، معها، أن تكون جباههنّ قد تندّت وظهورهن سرى فيها خيطٌ من العرق البارد...
بعد الآسيويات اللائي أشحتُ عنهنّ عينيّ وقد ارتسمَ على ملامحهنّ تعبيرٌ لم يسعني تحديدهُ أإنهاكٌ خالصٌ هو أم راحةٌ أعقبت الإنهاك، تحدّث الإيطاليون، فتى وفتاتان نابوليتانيّون، تفعمهم ثقةٌ في النفس قد تكونُ بقايا من عزّ الإمبراطورية الرومانية، لاحظتُ في الفتاتين خاصّةً، بعد أن قدّموا ثلاّثتهم أنفسَهم بفرنسية على سُلّم نوتات إيطاليّ، لاحظتُ في طريقة حديثهما أنّ ثقتهما بالنّفس أضفت عليهما، عندما تحادثتا بلغتِهما ذات حروف العلّة الممطّطة المنتهية بهاء مخفّفة، طابعًا من الشبق، أمامي تمامًا جلست ألمانيةٌ لم تسعفها قامتها في إخفاء ميلِها للبدانة، بدت متحفّظة، محترِسة، لا تشجّع على ربط علاقاتٍ بها، تبتسِم إلى الآخرين بمن فيهم الأستاذة، بقدرٍ موزون بعيارات غاية في الدقّة، هذا النوع، قلتُ في نفسي، عكسَ ما قد يبدو عليه، يغري بالمغامرة، بإخضاعِ التِقنيات للتجريب، لستُ أدري لمَ ومَضَت في ذهني صورة المستشارة الألمانيّة لحظةَ استدارت إليّ مواطنتها، فيما كنتُ أقدّم نفسي، وقد شدّها لِسانيّ الفرنسيّ الفصيح، على يميني جلست، في شبه خمول، مكسيكيّة اسمها غابي، لا يمكنُ لمن يراها أن يُخطِئ أصولها المنحدرة من قبائل الهنود الحُمر، كانت بوجهها ذي البشرة البيضاء المائلة إلى الصفرة، بشعرها الطويل المسدل على كتفيها، بعينيْها الباسمتين على الدوام، بنحافتها المستحبّة وحركاتها الطفوليّة، بعفويتها وهي تمدّ أناملها تمرّرها على ظاهر كفّي في أثناء نقاشٍ هامشيّ دار بيني وبينها حول كلمـة Peau، كانت بضحكتِها الأنفيّة الخجولة التي أتتها بعد أن لمحتُ، بين أوراقها، رسمًا بقلم الرصاص سألتُها عنه، لتجيبني أنّه وجهُ والدها الذي اشتاقت إليه، كانت بعدم معرفتها لأوكتافيو باث، بعدم اهتمامها بسوى تخصّصها التقنيّ، كانت كلّها أشياء تحرّض واحدًا مثلي يحبّ الاكتشاف حدّ العشق إلى الطمعِ بفتحٍ جديد، فتح كفتح كولومبوس بغير دماء بغير استعباد بغير تفكيرٍ في اللحظـةِ التاليـة...

الخميس، 4 فبراير 2016

أصائـلُ باريـس


كنتُ، فيما هي تُمطِرُ، أتأمّلُ، من تحت ظِلّـة المحطّة، صورةً إشهاريّة لفيلم شغلت كلّ الجدار الجانبيّ للمحطّة طوله وعرضِه، صورةٌ نصفية لحسناء، شقراء تلك الشقرة التي تغلب على الإسكندنافيات، ترنو بعينيْن سرابِيّتيْ اللون مخاتلتيْن، لا هما زرقاويْن صرف ولا خضراويْن ولا عسليتيْن وهما كلّ ما ذكرت، صفحةُ وجهها البيضاء المشرّبة بحمرة عند الوجنتيْن وأرنبة الأنف بدَت وكأنها غُسِلت، لتوّها، أو جُفّفت من دموعٍ انهمَرت عليها في لحظة انفعال، بدَت طلعتها التي لا تخلو من قوّة ومن صلابة وكأنّها مقبلةٌ، أو ربّما مدبرةٌ، على مشهد ممعنٍ في الحساسيّة، لحظةُ مفصليّة في حياتها وحياة من كانت ترمقه، ضمّت أنملتيْ سبابتها وإبهامها على ذراع نظارة مرآتية توقّفت عند منتصف خطّ انحدار الأنف، وبلغت تلك اللحظة، بالنّسبة لواحدٍ مثلي لم يشاهد الفيلم بعد، درجةً من المأساة تحوّطت بأن لا تُسعِفَه الصورة، وقد سكَنت بغير قليل من الإستفزاز، في القطع بأنّ الشقراء بسبيلِها إلى إزاحة النظّارة من على عينيْها أو إلى مواراتِهما بها، ارتدَت معطفًا أسودَ من جلد تناثرت على الكتفين منه ندفُ الثلج، شعرها الأصفر ذو الأعماق الطوليّة المائلة إلى السواد علقت به، أيضًا، حبيبات القطن الثلجيّة كأنها الفوانيس، وقدّر لندف أخرى، كما النظّارة، أن تبقى جامدةً في الهواء لا أعرِف أإلى اليمين سترقُص أم إلى اليسار ستميل، ورأيتُ من الندفِ ما عكسته زجاجتا النظّارة، ندف ثلجيّة وأخرى ذاتُ لونٍ ناريّ متوهّج أثارت فيّ، بغير قليل من الشعور بزنق الوقت، رغبةً قاهِرة في الاقتراب من شيء دافئ... و، إلى ذلك، الرسوّ على قرار عدم مشاهدة هذا الفيلم حتّى وإن أتيح لي ذلك، خشيتُ أن لا تكونَ لقطة الفيلم المتحرّكة في مقام ما غدقت به الصورة الساكنـة، ولو تبرنس بعضه، بعض السكون، لبوسَ المأساة...
ومن فوهات خفيّة أسفل مقعدي، داخل الحافلة، تصاعدت، أخيرًا، تيّارات دافئة غمرتني بخدرٍ لذيذ أزاحَ عن اللون الرماديّ، خارجًا، كلّ صلةٍ بالكآبـة، جعلتُ، في دخيلتي، أتمنّى أن تزيد قطرات المطر، ومعها البرودة، ومعها القتامة، ومعها الليل الذي جعل يدنو، فوّةً وقرسًـا وغموقًا وحلكةً، ومعها رحلتي بأن تكونَ بلا محطّة تاليـة...
في المحطّة الثالثة، وكانت لذّة الخدر، وقد اعتدتُها أو كِدت، قد يدأت تزايِلُني بنفسِ إيقاع حلاوة مضغات الشوينغوم وهي تنسحِب، إلتقطتُ من محفظتي، على سبيل تدارُكِ انزياح لذّة بجنيسةٍ لها، كتابًا سحرتني أجواء صفحاته الأولى التي قرأتها من يومين، لكن وأنا أفتحه على الصفحة 38 حيثُ توقّفتُ، عند متراصفات من الأسئلة والأجوبة التي جرت، في اتّصال هاتفيّ، بين المحلّل النفسيّ الصينيّ الذي عاد لتوّه من فترة دراسات عليا بفرنسا، وبين زميلة قديمة له تعمل كمحنّطة للجثث، وقد توفيّ زوجها وصارت إلى أرملة في الأربعين، هنا كانت قد توقّفت قراءتي ومن هنا، والحافلة تتوقّف في المحطّة الثالثة، عزمتُ وصلَ ما قرأتُه مع ما سأقرأه، لكن لا شيء من ذلك حدث، استهوتني تلك البطاقة ذات الطبيعة النابضيّة التي أتوسّلها لتأشير الصفحات التي أتوقّف فيها، بطاقة بلاستيكية مستطيلة بطول علبة السجائر وعرضِها يغلب عليها اللون الأسود، لم أكُن قد انتبهتُ من قبل أنّها بطاقة "وفاء" تخصّ الماركة العالمية Jules، ولم أذكُر، فوق ذلك، أين ولا متى عثرتُ عليها، رحتُ أمرّر رأس سبابتي، وقد أغلقتُ الكتاب ووضعته على فخذيّ، على تلك الكتابة والأرقام البارزة، وعزفتُ لحنًا، أحسستُه أكثر ممّا سمعتُه، فيما كنتُ أمرّر، جيئةً وذهابًا، ظفري بأعمدة الرمز الشريطيّ (Le code-Barre)، كان لحنًا ينطلِق في طرف الشريط مخشوشنًا وينزعُ، شيئًا فشيئًا، إلى الرقّة والعكس، يقترب من صوت آنية القهوة عندما نملأها، يرقّ الصوتُ كلّما ضاق عنُقُ الزجاجة واقترب السائلُ من الفوهة، وفي لحظة ما، والحافلة تبلغ رابع محطّة، غطّت على لحني وعزفي كتكتةُ أطفالٍ وصخبهم، صعدوا إلى الحافلة يقودهم شابّ زنجيّ يلمعُ في شحمة أذنه قُرطٌ كريستاليّ بحجم وشكل حبّة البنّ، وبأوامر صارمة وقسمات لا لين فيها أخذَ يعيّن لكلّ طفلٍ ولكلّ طفلة المكان أين يجلس وتجلس، عدتُ إلى الكتاب على اهتزاز الحافلة المعلنةِ استهلالها الرحلة، أتلصّص على تلك المكالمة الهاتفيّة بين المحلّل الصينيّ وزميلتِه محنّطة الجثث التي صارَت ذاتُ لقبٍ من بين ما يوحي إليه عطش جسدِها، لكنّني وجدتُنـي، للمرّة الثانيّة، أنشغِلُ عن الجمَل وعن العبارات والأوصاف، فقد حلّ محلّ البطاقة المستطيلة، هذه المرّة، وجهُ الطفلة التي قادها الزنجيّ صاحب القرط إلى الجلوس بجانبي، لمحتُها بطرف وهي تنقلُ نظراتها بين الكتاب المفتوح أماميّ وبين وجهي، تظاهرتُ بأنّني لم أنتبِه إليها، وهو تصرّف، بالنّسبة لطفلةٍ في السادسة أو السابعة، استصغارٌ وعدم اهتمام، ثمّ رأيتُها، وقد بلغ استفزازي اللامبالي لها درجةً لا سبيل إلى طاقتِها، تسندُ رأسهَـا وتنفخ، في تظاهرٍ ومسرَحَة، أنفاسًا وتأفيفًا تحرّكت عليها حوّاف الصفحةُ التي تظاهرتُ أنّها استغرقتني، كانت تُنيم خدّها الأيسر على ظاهر كفّها المسند بحافّة المقعد الذي أمامَنا، أغلقتُ الكتاب فربّما، قلتُ في نفسي، أنّني بهذا سأهيّئ لها مجالاً لتكون البادئة في الحديث، إلاّ أنّها وكأنّي بها ردّت إليّ الإساءة بما هو أسوء، عوض أن تكلّمني راحت تمسحُ آثار كتابات طفوليّة حمراء وخضراء من على راحتها، كنتُ أنظرُ إلى أصابعها وهي تتابِعُ، محوًا، الخطوط والحروف عندما صرخ الزنجيّ الواقفُ في الممرّ "اقتربنا من المحطّة سننزل يا أطفال"، شعرتُ بشيء كالضيقِ، فقد تعشّمتُ في أن تطولَ تمثيليّتي والطّفلـة أكثر من هـذا، وفيما كانت الطفلة تهمّ بالوقوف وتفحصُ حقيبة ظهرها رفعتُ كفّي أمسحُ بها على شعرها، استدارت إلي وابتسامتها تشعّ في وجهها، سألتني، بسعادة، وعلى نحوٍ بدت معه كلماتها مزنوقة تحاولُ الكلمةُ رفسَ سابِقتها، شعرتُ بالذنب وأنا الذي حرمتُها من حديثٍ كان قد يدخِل إليها بهجةً وسرور، سألتني "هل أنتَ حزائريّ ؟..." أجبت، فيما كانت قد ابتعدت في الرواق قليلاً، "نعم أنا جزائريّ"، وعند الباب المشرّع، وقد ابتسَم إليّ الشابّ الزنجيّ وأمسك بكتِف الطفلة يستمهلها ليتيح لنا اتمام حديثنا صاحت، وفي وجهها تعبيرٌ مثلَ التحدّي "أنا أيضًا جزائريّة"، من على الرصيف رأيتها من خلف الزجاج، رفعت يدها تودّعني ورأيتُ شفتيها تتحرّكان بما لم أستطِع تبيّنه من كلمات...تذكّرتُ، بعد وقت، أنّني لو أبكرتُ في الحديثِ إلى الطفلة كنتُ ربّما عرفت، على الأقلّ، اسمها، ثمّ بدا لي الأمرُ، هكذا كما تمّ، أسحـر، فربّما كان غير ما حدث يزيلُ السّحر عن حديثي إلى الطفلة مثلما قد يزيل الفيلم المتحرّك ما وجدتُـهُ في صورة الممثّلة الصامتـة...