الجمعة، 5 فبراير 2016

أصائـلُ باريـس


كانوا تسعة عشر عشرونُهُـم أنـا، الثاني من حيث السِنّ، تاسِعُ الجنوبيين، خامسُ الرجال، رابعُ الشرقيين والأفريقي الوحيد العربيّ الأوحَد، تضمُّنـا، في أحد الأقسام الجامعيّة، حيطانٌ أربعة بيضاء تلمعُ فيها نقاطٌ فضيّة، شفّت النوافذ، يسارَنا، على أسطحٍ نفثت أغلب المداخن النابتة فيها أفعوانات بخارية قطنيّة اللون، بدت المدينة من هذا العلوّ غيرَها ما كنتُ أقطع منها الشوارع والميادين منذ لحظات، كالحةً حزينة لا أثر للحياة فيها، ومن هناك، في الأفق، وقفَت، مخترِقةً سماء الأصيل الرماديّة، أربع رافعات حديديّة بروَزَت المشهد وختمَتـهُ بالكآبة وبالبرود...
أرجوكُم، هكذا بدأت المدرّسةُ حديثَها، نادوني ماري دون ألقاب، بلغتُ لتوّي ستًّا وعشرين سنـة، أستاذة بدرجة ماستر في الأدب واللغة الفرنسييْن، وعلى النولِ نفسِه تعاقبنا، نحنُ الطلبة، نسج تقديمِ أنفسِنا مع تغييرِ طفيف على ما نسجته ماري، حيّدنا "أرجوكُم" وحلَلَنا محلّها جنسيّةَ كلّ منّا، تكلّمت الآسيويات الثلاث، الصينيّتان والفيتناميّة، أوّلاً، بكلمات فرنسيةٍ ولكنة آسيوية لا زالت تعقِل ألسِنتهنّ، ولا يظهر أنّها ستتنازل في مقبِل الأيّام، كُنّ، كما بدون لي، يجاهدنَ لإطلاق ألسِنتهن فيما الألسنة أصابها مسّ من حِران، بل وتقهقرت محبّذة الإلتصاق بسقف الفم، كنّ ينطقن الكلمات، حتّى قليلة الحروف منها، مجزّآت على ثلاث وأربع واثنيْن، انتهى كلّ مقطع، وصُفِّد، مثل السجين، بحرف وسط بين الكاف والقاف، شعرتُ بمعاناتهنّ، بل وجدتُني، في لحظة من اللحظات، أشفِقُ عليهنّ وأتعاطف، ثمّ في لحظةِ تالية غمرتُهنّ، لتلك الشجاعة، بنظرة إعجابٍ وإكبار، كيفَ لا وقد صِرنَ بكليتهنّ طرفًا في معركة تدورُ في عمق الأفواه الثلاثة، كانت معركةً حقيقة لا يبعد، معها، أن تكون جباههنّ قد تندّت وظهورهن سرى فيها خيطٌ من العرق البارد...
بعد الآسيويات اللائي أشحتُ عنهنّ عينيّ وقد ارتسمَ على ملامحهنّ تعبيرٌ لم يسعني تحديدهُ أإنهاكٌ خالصٌ هو أم راحةٌ أعقبت الإنهاك، تحدّث الإيطاليون، فتى وفتاتان نابوليتانيّون، تفعمهم ثقةٌ في النفس قد تكونُ بقايا من عزّ الإمبراطورية الرومانية، لاحظتُ في الفتاتين خاصّةً، بعد أن قدّموا ثلاّثتهم أنفسَهم بفرنسية على سُلّم نوتات إيطاليّ، لاحظتُ في طريقة حديثهما أنّ ثقتهما بالنّفس أضفت عليهما، عندما تحادثتا بلغتِهما ذات حروف العلّة الممطّطة المنتهية بهاء مخفّفة، طابعًا من الشبق، أمامي تمامًا جلست ألمانيةٌ لم تسعفها قامتها في إخفاء ميلِها للبدانة، بدت متحفّظة، محترِسة، لا تشجّع على ربط علاقاتٍ بها، تبتسِم إلى الآخرين بمن فيهم الأستاذة، بقدرٍ موزون بعيارات غاية في الدقّة، هذا النوع، قلتُ في نفسي، عكسَ ما قد يبدو عليه، يغري بالمغامرة، بإخضاعِ التِقنيات للتجريب، لستُ أدري لمَ ومَضَت في ذهني صورة المستشارة الألمانيّة لحظةَ استدارت إليّ مواطنتها، فيما كنتُ أقدّم نفسي، وقد شدّها لِسانيّ الفرنسيّ الفصيح، على يميني جلست، في شبه خمول، مكسيكيّة اسمها غابي، لا يمكنُ لمن يراها أن يُخطِئ أصولها المنحدرة من قبائل الهنود الحُمر، كانت بوجهها ذي البشرة البيضاء المائلة إلى الصفرة، بشعرها الطويل المسدل على كتفيها، بعينيْها الباسمتين على الدوام، بنحافتها المستحبّة وحركاتها الطفوليّة، بعفويتها وهي تمدّ أناملها تمرّرها على ظاهر كفّي في أثناء نقاشٍ هامشيّ دار بيني وبينها حول كلمـة Peau، كانت بضحكتِها الأنفيّة الخجولة التي أتتها بعد أن لمحتُ، بين أوراقها، رسمًا بقلم الرصاص سألتُها عنه، لتجيبني أنّه وجهُ والدها الذي اشتاقت إليه، كانت بعدم معرفتها لأوكتافيو باث، بعدم اهتمامها بسوى تخصّصها التقنيّ، كانت كلّها أشياء تحرّض واحدًا مثلي يحبّ الاكتشاف حدّ العشق إلى الطمعِ بفتحٍ جديد، فتح كفتح كولومبوس بغير دماء بغير استعباد بغير تفكيرٍ في اللحظـةِ التاليـة...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق