الخميس، 4 فبراير 2016

أصائـلُ باريـس


كنتُ، فيما هي تُمطِرُ، أتأمّلُ، من تحت ظِلّـة المحطّة، صورةً إشهاريّة لفيلم شغلت كلّ الجدار الجانبيّ للمحطّة طوله وعرضِه، صورةٌ نصفية لحسناء، شقراء تلك الشقرة التي تغلب على الإسكندنافيات، ترنو بعينيْن سرابِيّتيْ اللون مخاتلتيْن، لا هما زرقاويْن صرف ولا خضراويْن ولا عسليتيْن وهما كلّ ما ذكرت، صفحةُ وجهها البيضاء المشرّبة بحمرة عند الوجنتيْن وأرنبة الأنف بدَت وكأنها غُسِلت، لتوّها، أو جُفّفت من دموعٍ انهمَرت عليها في لحظة انفعال، بدَت طلعتها التي لا تخلو من قوّة ومن صلابة وكأنّها مقبلةٌ، أو ربّما مدبرةٌ، على مشهد ممعنٍ في الحساسيّة، لحظةُ مفصليّة في حياتها وحياة من كانت ترمقه، ضمّت أنملتيْ سبابتها وإبهامها على ذراع نظارة مرآتية توقّفت عند منتصف خطّ انحدار الأنف، وبلغت تلك اللحظة، بالنّسبة لواحدٍ مثلي لم يشاهد الفيلم بعد، درجةً من المأساة تحوّطت بأن لا تُسعِفَه الصورة، وقد سكَنت بغير قليل من الإستفزاز، في القطع بأنّ الشقراء بسبيلِها إلى إزاحة النظّارة من على عينيْها أو إلى مواراتِهما بها، ارتدَت معطفًا أسودَ من جلد تناثرت على الكتفين منه ندفُ الثلج، شعرها الأصفر ذو الأعماق الطوليّة المائلة إلى السواد علقت به، أيضًا، حبيبات القطن الثلجيّة كأنها الفوانيس، وقدّر لندف أخرى، كما النظّارة، أن تبقى جامدةً في الهواء لا أعرِف أإلى اليمين سترقُص أم إلى اليسار ستميل، ورأيتُ من الندفِ ما عكسته زجاجتا النظّارة، ندف ثلجيّة وأخرى ذاتُ لونٍ ناريّ متوهّج أثارت فيّ، بغير قليل من الشعور بزنق الوقت، رغبةً قاهِرة في الاقتراب من شيء دافئ... و، إلى ذلك، الرسوّ على قرار عدم مشاهدة هذا الفيلم حتّى وإن أتيح لي ذلك، خشيتُ أن لا تكونَ لقطة الفيلم المتحرّكة في مقام ما غدقت به الصورة الساكنـة، ولو تبرنس بعضه، بعض السكون، لبوسَ المأساة...
ومن فوهات خفيّة أسفل مقعدي، داخل الحافلة، تصاعدت، أخيرًا، تيّارات دافئة غمرتني بخدرٍ لذيذ أزاحَ عن اللون الرماديّ، خارجًا، كلّ صلةٍ بالكآبـة، جعلتُ، في دخيلتي، أتمنّى أن تزيد قطرات المطر، ومعها البرودة، ومعها القتامة، ومعها الليل الذي جعل يدنو، فوّةً وقرسًـا وغموقًا وحلكةً، ومعها رحلتي بأن تكونَ بلا محطّة تاليـة...
في المحطّة الثالثة، وكانت لذّة الخدر، وقد اعتدتُها أو كِدت، قد يدأت تزايِلُني بنفسِ إيقاع حلاوة مضغات الشوينغوم وهي تنسحِب، إلتقطتُ من محفظتي، على سبيل تدارُكِ انزياح لذّة بجنيسةٍ لها، كتابًا سحرتني أجواء صفحاته الأولى التي قرأتها من يومين، لكن وأنا أفتحه على الصفحة 38 حيثُ توقّفتُ، عند متراصفات من الأسئلة والأجوبة التي جرت، في اتّصال هاتفيّ، بين المحلّل النفسيّ الصينيّ الذي عاد لتوّه من فترة دراسات عليا بفرنسا، وبين زميلة قديمة له تعمل كمحنّطة للجثث، وقد توفيّ زوجها وصارت إلى أرملة في الأربعين، هنا كانت قد توقّفت قراءتي ومن هنا، والحافلة تتوقّف في المحطّة الثالثة، عزمتُ وصلَ ما قرأتُه مع ما سأقرأه، لكن لا شيء من ذلك حدث، استهوتني تلك البطاقة ذات الطبيعة النابضيّة التي أتوسّلها لتأشير الصفحات التي أتوقّف فيها، بطاقة بلاستيكية مستطيلة بطول علبة السجائر وعرضِها يغلب عليها اللون الأسود، لم أكُن قد انتبهتُ من قبل أنّها بطاقة "وفاء" تخصّ الماركة العالمية Jules، ولم أذكُر، فوق ذلك، أين ولا متى عثرتُ عليها، رحتُ أمرّر رأس سبابتي، وقد أغلقتُ الكتاب ووضعته على فخذيّ، على تلك الكتابة والأرقام البارزة، وعزفتُ لحنًا، أحسستُه أكثر ممّا سمعتُه، فيما كنتُ أمرّر، جيئةً وذهابًا، ظفري بأعمدة الرمز الشريطيّ (Le code-Barre)، كان لحنًا ينطلِق في طرف الشريط مخشوشنًا وينزعُ، شيئًا فشيئًا، إلى الرقّة والعكس، يقترب من صوت آنية القهوة عندما نملأها، يرقّ الصوتُ كلّما ضاق عنُقُ الزجاجة واقترب السائلُ من الفوهة، وفي لحظة ما، والحافلة تبلغ رابع محطّة، غطّت على لحني وعزفي كتكتةُ أطفالٍ وصخبهم، صعدوا إلى الحافلة يقودهم شابّ زنجيّ يلمعُ في شحمة أذنه قُرطٌ كريستاليّ بحجم وشكل حبّة البنّ، وبأوامر صارمة وقسمات لا لين فيها أخذَ يعيّن لكلّ طفلٍ ولكلّ طفلة المكان أين يجلس وتجلس، عدتُ إلى الكتاب على اهتزاز الحافلة المعلنةِ استهلالها الرحلة، أتلصّص على تلك المكالمة الهاتفيّة بين المحلّل الصينيّ وزميلتِه محنّطة الجثث التي صارَت ذاتُ لقبٍ من بين ما يوحي إليه عطش جسدِها، لكنّني وجدتُنـي، للمرّة الثانيّة، أنشغِلُ عن الجمَل وعن العبارات والأوصاف، فقد حلّ محلّ البطاقة المستطيلة، هذه المرّة، وجهُ الطفلة التي قادها الزنجيّ صاحب القرط إلى الجلوس بجانبي، لمحتُها بطرف وهي تنقلُ نظراتها بين الكتاب المفتوح أماميّ وبين وجهي، تظاهرتُ بأنّني لم أنتبِه إليها، وهو تصرّف، بالنّسبة لطفلةٍ في السادسة أو السابعة، استصغارٌ وعدم اهتمام، ثمّ رأيتُها، وقد بلغ استفزازي اللامبالي لها درجةً لا سبيل إلى طاقتِها، تسندُ رأسهَـا وتنفخ، في تظاهرٍ ومسرَحَة، أنفاسًا وتأفيفًا تحرّكت عليها حوّاف الصفحةُ التي تظاهرتُ أنّها استغرقتني، كانت تُنيم خدّها الأيسر على ظاهر كفّها المسند بحافّة المقعد الذي أمامَنا، أغلقتُ الكتاب فربّما، قلتُ في نفسي، أنّني بهذا سأهيّئ لها مجالاً لتكون البادئة في الحديث، إلاّ أنّها وكأنّي بها ردّت إليّ الإساءة بما هو أسوء، عوض أن تكلّمني راحت تمسحُ آثار كتابات طفوليّة حمراء وخضراء من على راحتها، كنتُ أنظرُ إلى أصابعها وهي تتابِعُ، محوًا، الخطوط والحروف عندما صرخ الزنجيّ الواقفُ في الممرّ "اقتربنا من المحطّة سننزل يا أطفال"، شعرتُ بشيء كالضيقِ، فقد تعشّمتُ في أن تطولَ تمثيليّتي والطّفلـة أكثر من هـذا، وفيما كانت الطفلة تهمّ بالوقوف وتفحصُ حقيبة ظهرها رفعتُ كفّي أمسحُ بها على شعرها، استدارت إلي وابتسامتها تشعّ في وجهها، سألتني، بسعادة، وعلى نحوٍ بدت معه كلماتها مزنوقة تحاولُ الكلمةُ رفسَ سابِقتها، شعرتُ بالذنب وأنا الذي حرمتُها من حديثٍ كان قد يدخِل إليها بهجةً وسرور، سألتني "هل أنتَ حزائريّ ؟..." أجبت، فيما كانت قد ابتعدت في الرواق قليلاً، "نعم أنا جزائريّ"، وعند الباب المشرّع، وقد ابتسَم إليّ الشابّ الزنجيّ وأمسك بكتِف الطفلة يستمهلها ليتيح لنا اتمام حديثنا صاحت، وفي وجهها تعبيرٌ مثلَ التحدّي "أنا أيضًا جزائريّة"، من على الرصيف رأيتها من خلف الزجاج، رفعت يدها تودّعني ورأيتُ شفتيها تتحرّكان بما لم أستطِع تبيّنه من كلمات...تذكّرتُ، بعد وقت، أنّني لو أبكرتُ في الحديثِ إلى الطفلة كنتُ ربّما عرفت، على الأقلّ، اسمها، ثمّ بدا لي الأمرُ، هكذا كما تمّ، أسحـر، فربّما كان غير ما حدث يزيلُ السّحر عن حديثي إلى الطفلة مثلما قد يزيل الفيلم المتحرّك ما وجدتُـهُ في صورة الممثّلة الصامتـة...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق